فخ السيولة التركية: بين مطرقة الفائدة وسندان التضخم!

تعد أزمة السيولة في الليرة التركية واحدة من أبرز التحديات الاقتصادية، التي تواجه صناع القرار في تركيا، فعلى الرغم من رفع أسعار الفائدة بشكل حاد في محاولة لكبح التضخم واستعادة ثقة الأسواق بالليرة، فإن هذه السياسة جاءت على حساب تضييق الخناق على السيولة بالعملة المحلية داخل النظام المصرفي، وباتت البنوك تعتمد بشكل متزايد على مزادات السيولة قصيرة الأجل التي يقدمها المركزي، في مؤشر واضح على الضغوط المتصاعدة. وهذه المشكلة تتجاوز الجوانب الفنية، فالشركات الصغيرة والمتوسطة تواجه صعوبة بالغة في الحصول على التمويل، في وقت أصبحت فيه الليرة أكثر تقلباً بالنسبة للمستثمرين الأجانب، ما قد يضعف جاذبية عمليات المتاجرة بفروقات الفائدة Carry Trade التي تعد أحد مصادر تدفق العملات الأجنبية.

في ظل محاولات تركيا لاستعادة مصداقية سياستها النقدية من جهة، والحفاظ على استمرارية النشاط الاقتصادي من جهة أخرى، تظل سيولة الليرة أحد أبرز العوائق أمام أي مسار مستدام خلال المرحلة المقبلة، فالبنك المركزي لديه عمليات مالية تؤدي إلى ضخ مزيد من الليرة في البلاد، فهو يشتري الدولار من البنوك ويمنحهم ليرات جديدة مقابل ذلك، أي أنه يطبع مزيدا من الليرة، ولكن في الوقت نفسه هو يحارب التضخم، الذي كان 75% العام الماضي، والآن انخفض ولا يزال مرتفعا جدا عند مستوى 38%، وذلك عبر سياسة رفع سعر الفائدة الرسمي، الذي يقف حالياً عند 46%. وكما هو معروف، هذه السياسة المتشددة جاءت متأخرة جداً حيث كان الرئيس التركي في سنوات سابقة يصر على خفض الفائدة بدلاً من رفعها لمواجهة التضخم، إلى أن استسلم أخيراً للأمر الواقع وغير من سياسته الاقتصادية.

وبينما هناك شح في الليرة داخلياً، فهي متوفرة بشكل جيد في الخارج، حيث تقوم البنوك التركية بالاقتراض من الخارج متى ما استطاعت القيام بذلك، لأن التكلفة في الخارج أقل منها في الداخل ببضع مئات من نقاط الأساس. ومشكلة قيام البنوك التركية بذلك أنه يؤدي إلى رفع عرض النقود في تركيا ويعرقل من جهود المركزي في كبح التضخم، لذا اتجه البنك المركزي إلى سحب السيولة عبر ما يُعرف بمزادات الودائع، وهي أدوات تشبه عمليات الريبو العكسي، حيث تُسحب السيولة من البنوك وتُجمّد لدى المركزي. وفي الأسبوع الماضي قام كذلك برفع نسبة الاحتياطي الإلزامي على الأموال التي تتحصل عليها البنوك من الخارج بهدف الحد من تدفق الليرة من الخارج وإغراق السوق المحلية.

في أي سوق مفتوحة تنتقل فيها الأموال بحرية شبه تامة، كما هو الوضع في تركيا على الرغم من بعض الإجراءات المخالفة لذلك، فالذي يحصل لمثل هذه السوق أن تكون عرضة لقوى العرض والطلب الخارجية، فتأتي الرياح أحياناً بما لا تشتهي السفن، فلا تزال عقود المشتقات في الخارج تراهن على انخفاض معدل الفائدة، وهذا يتضح من نزول الفائدة الضمنية في هذه العقود، التي تتحدد أسعارها حسب أسعار الفائدة المستقبلية، وبالتالي فحسابات البنوك الخارجية والمستثمرين في الخارج مبنية على أسعار معينة للفائدة التركية، فهم في الخارج يتوقعون انخفاض معدلات الفائدة، بينما المركزي التركي لا يريدها أن تنخفض لكي يتمكن من السيطرة على التضخم، الذي وصل الآن إلى 38% منخفضاً من 75% العام الماضي.

لاحظ أن انخفاض معدل الفائدة يحدث إن حدث انخفاض في التضخم، وهذا ما يعمل عليه المركزي ولكنه لن يقوم بخفض الفائدة إلا أن تأكد تماماً من السيطرة على التضخم، وبالمقابل فالفائدة المرتفعة تنعش عمليات المتاجرة بفروقات الفائدة carry trade، فلك أن تتخيل كيف يمكن لمستثمرين الاقتراض من أوروبا أو أمريكا بنسبة 5%، أو أقل من ذلك في اليابان ودول أخرى، ومن ثم يشترون الليرة ويستثمرونها في أصول تركية بعائد آمن إلى حد كبير بنسبة 46%! هذه اللعبة ستستمر طالما بقيت أسعار الفائدة في تركيا مرتفعة، واستمرت أسعار الصرف بالتحسن، وذلك ما يراهن عليه المضاربون. كتبت سابقاً عن نظرية تكافؤ معدلات الفائدة، التي تقول إنه لا يمكن تحقيق عائد كبير باستغلال فروقات أسعار الفائدة لأن أسعار الصرف في نهاية المطاف ستمحو أي أرباح محققة، وبالتالي يحصل المستثمر فقط على العائد الطبيعي المتاح. ولكن أسواق المال ليست ذات كفاءة عالية كما يفترض، لذا توجد هناك ثغرات يستغلها المضاربون، إضافة إلى الاستفادة من عقود التحوط من سعر الصرف المستقبلي، بمعنى أن من سيكون لديه ليرات بعد عام من الآن يستطيع تحييد تقلب سعر الصرف بشراء عقود معينة تحمي من هذه التقلبات.

الحقيقة أن التضخم في تركيا في تراجع شهري مستمر من 75% العام الماضي إلى 38% حالياً، وهنا يبرز التحدي للمضاربين، فالتوجه العام يشير إلى نزول في نسبة التضخم وبالتالي نزول في سعر الفائدة وارتفاع في سعر الصرف لمصلحة الليرة، ولكن بالمقابل فتحركات البنك المركزي ممكن أن تقلب تلك الموازين وتؤدي إلى خسائر كبيرة لهؤلاء المضاربين.

وستستمر مشكلة السيولة قائمة طالما بقي التضخم عند هذه النسب العالية، وستستمر البنوك باستخدام ما لديها من حيل للحصول على السيولة بتكلفة أقل من تلك التي يفرضها المركزي، ودون الاضطرار إلى استنزاف ما لديها من احتياطيات أجنبية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي