بيئة العمل المتميزة.. بيئة متعلمة
مستوى أداء الشركات تحدده بيئة العمل وقدرتها على دفع وتحفيز وتمكين العاملين على التفكير الإبداعي والاتصال الفاعل في إطار مؤسسي يمنحهم قدرا كبيرا من الحرية ويحقق مستوى عاليا من الشفافية وحرصا على تطبيق القيم والأخلاقيات المهنية والتزام معاييرالجودة. ولأن البيئة الخارجية للأعمال أصبحت أكثر تغيرا وتقلبا، لم يعد ممكنا الاستمرار على النهج الإداري البيروقراطي ذاته، الذي يرتكز إلى الرقابة والتحكم وتطبيق أنظمة إدارية تتصف بالرتابة واتباع نمط روتيني بطيء. الحقيقة الثابتة أن كل شيء من حولنا يتغير وبمعدلات متزايدة، فالمنافسة العالمية على أشدها والتغيرات الثقافية والتقنية والاجتماعية بما في ذلك العولمة وتشابك المصالح بين المجتمعات، جعلت من الصعب العيش في معزل عن الآخرين. كل ذلك يشكل تحديا كبيرا أمام منظمات الأعمال ويتطلب منها استيعاب هذه المتغيرات واحتوائها إذا ما أرادت البقاء والاستمرارية والنجاح، بل عليها صناعة التغير نفسه، فإن أفضل طريقة لإدارة التغير والتحكم فيه هو صناعته. هذا يتطلب من منظمات الأعمال أن تكون أكثر انفتاحا وشفافية في بيئتها الداخلية وأكثر اتصالا مع بيئتها الخارجية. المنظمات التي تتعلم وتجعل من الممكن مناقشة ما لم يكن من الممكن مناقشته ستكون أكثر دراية وإدراكا لما يدور حولها، وبالتالي أسرع وأكثر فاعلية وكفاءة في الاستجابة للمتغيرات والمستجدات في البيئة. في هذه الثقافة المنفتحة تكون الفاعلية ليس فقط إلى أي مدى تم تحقيق الأهداف، إنما هل الأهداف التي وضعت مطلوبة اجتماعيا؟! تقع على عاتق منظمات الأعمال مسؤولية اجتماعية ذات صلة بالتنمية المستديمة. فمستوى التنمية الوطنية مرهون بقدرتها على تطوير ذاتها كمؤسسات تبحث عن التميز وتبادر بطرح أفكار وأساليب جديدة لأداء العمل وتدفع نحو بناء الخبرات التراكمية والمعرفة المتخصصة التي هي السبيل للانطلاق نحو العالم الأول ومنافسة الآخرين.
لقد أصبح من الضروري أن تقوم المنظمة بشكل مستمر بمراقبة التغيرات والمبادرة بإجراء ما يلزم للإعداد، وربما استباق الأحداث للتقليل من آثارها، أو عند مستوى أعلى من التفكير والتطور التنظيمي واستحداث أسلوب أو خدمة أو منتج جديد يغير نمط الاستهلاك وأسلوب الحياة. إن بقاء الحال من المحال، وإن التغييرات وإن بدت صغيرة إلا أنها مهمة ومؤثرة. لكن كيف للمنظمة إدراك هذه التغييرات؟ إن ذلك يستدعي أن يكون هناك تفكير استراتيجي استباقي كجزء من العمل يمارس من قبل جميع الموظفين في جميع المستويات الإدارية. وهذا يعني في جوهره أن تكون المنظمة متعلمة لتبقى ناجحة، فالمنظمة المتعلمة التي تستهدف بناء الخبرة والوقوف على جميع المستجدات في بيئتها هي أفضل من تلك المنظمات التي لا تتعلم حتى وإن كان لديها استراتيجية أفضل صياغة. المهم ليس ما تعرفه، لكن ما تستطيع تعلمه! وهو ما يعني القدرة على فهم ما يدور حولك وإحداث التغيير المطلوب في التوقيت المناسب، ما يقود إلى التكيف مع المستجدات، فالمخلوقات الأقدر على الاستمرارية والبقاء ليست الأقوى أو الأذكى، إنما تلك القادرة على التكيف مع بيئتها. فالديناصورات القوية الكبيرة انقرضت وبقيت البعوضة الصغيرة الضعيفة لأنها كانت أقدر على التكيف بما وهبها الله من صفات عضوية تمكنها من الاستجابة للمتغيرات البيئية. لذا فتعلم المنظمات يقتضي بالضرورة مراجعة الاستراتيجيات وعدم أخذها كمسلمات والوقوع في شرك الافتراض الخاطئ بأن الأشياء ثابتة لا تتغير. هذه المراجعة بالنظر إلى المتغيرات في البيئة تقتضي بالضرورة تطبيق المشاركة واللامركزية في صنع القرار على أساس من الثقة والشفافية التي تقود في نهاية المطاف إلى استجلاب الأفكار الإبداعية والحلول المبتكرة من جميع منسوبي المنظمة وتقاسم المعلومات وإطلاق طاقاتهم الإبداعية. وتطبيق ذلك يتطلب نهجا إداريا مبنيا على التيسير والتهيئة وليس التحكم والرقابة. لذا فالتنظيم البيروقراطي بإجراءاته المطولة والتوجيه والرقابة من أعلى إلى أسفل لم يعد مجديا في الاستجابة للمتغيرات السريعة والمتنامية. فحتى في ظل تطبيق إدارة التغيير كآلية للتطوير التنظيمي فهي لا تعدو أداة لإجبار الموظفين على الانصياع لتوجيهات من هم في أعلى الهرم الإداري. وهي آلية غير فاعلة لأن التغيير الحقيقي ينبغي أن يكون من داخل الإنسان ذاته بحيث يكون الإنسان هو التغيير الذي يرغبه، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». إن إحداث التغيير من داخل الذات يتطلب تطبيق نهج المشاركة في عملية صنع القرار، وهو توجه يتسق مع الدعوة نحو التحول من الاقتصاد المعرفي إلى الاقتصاد التشاركي الذي يمثل فرصة للتعرف على البيئة والعمل معها ومن خلالها وليس مواجهتها، إلا أنه في الوقت ذاته تحد كبير يتمثل في عجز التنظيمات الإدارية في هيكلها الحالي وأسلوبها الإداري في التعامل مع التغيرات البيئية السريعة.
المنظمات المتعلمة لا تنام ولا تركن للمألوف ولا تطمئن إلى منطقة الراحة وتسترخي وتردد مقولة «ليس بالإمكان أكثر مما كان»، إنما تكون في بحث مستمر عن الأفضل واستباق الأحداث. وبالتالي يتعين على المنظمات، حتى المجتمعات مراجعة أسلوب صنع القرار والتحول إلى نهج المشاركة، فذلك أدعى إلى تحفيز التفكير الاستراتيجي الذي يجعلها أكثر استعدادا ليس لمواجهة المجهول وحسب، إنما صناعة المستقبل. لقد أحسنت «الاقتصادية» حين قررت إصدار قائمة بأفضل بيئة عمل لتكون مرجعية مقارنة لقياس الأداء تحفز وتشجع منظمات الأعمال على عمل الأفضل.
عميد معهد الأمير سلمان لريادة الأعمال في جامعة الملك سعود