كائنٌ لا تحتمل خفته

هذا عنوان رواية للكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا.. وجدته يمثل أصدق تمثيل الإعلام الجديد.. فقد أصبح هذا الإعلام من الخفة إلى حد وضعه في الجيب بحجم كف اليد وباللمس عليه يصبح الفرد على أطراف المعمورة.
لقد كان توماس بين أحد الآباء المؤسِّسين للثورة الأمريكية قبل أكثر من قرنيْن والثورة الفرنسية والثورة البريطانية هو أول مَن قال "العالم قريتي"، قالها بدافع الحس الإنساني العارم.. غير أن ماكلوان الذي جاء في نهاية القرن الـ 20، وبوعيه الثاقب لما ستفعله ثورة تقنية المعلومات قال بعد ذلك "العالم قرية"، وهو طبعاً لم يكمل عبارته، فالقرية الكونية التي عناها ليست حقيقية وإنما افتراضية غير أن التقنية الاتصالية سارت، بل طارت إلى أشواط فلكية مذهلة كسرت بها احتكار المؤسسات الإعلانية الكبرى وأغرقتها في دوامة فوضى لا تملك لها دفعاً وأسقط في يديها فقد أفلتت صناعة الإعلام منها.. صار جمهور العالم صناعة الصبية والكبار، العقلاء والمجانين.. المسؤولون ومَن تحللوا من كل مسؤولية.. صارت الهمهمات والهمسات في الغرف المغلقة فضائح كونية مدوية كما في ويكيليكس.. وحدث ما هو أشنع من ذلك.. تعرّى العالم، أصابه عهرٌ وفحشٌ وتهتكٌ لا مثيل له وامتلأ فضاء الإعلام بالغرائز وبالبذاءات والسفالة والانحطاط، وتم الدوس على القيم والمثل والمعايير والأخلاق إلى التشهير بالخصوصيات والتلصُّص عليها واختلاق الأكاذيب وحبك الدسائس والمكائد والافتراء والدجل.
صار الإعلام الجديد ساحة مستباحة منخورة بالفساد والإجرام المرعب.. تحوّل الفضاء الإعلامي إلى كباريهات للجنس بفجاجة الغرائز الوحشية الشاذة، نماذجه اللوطيون والسحاقيات وأبطاله أوغاد يعلمون أطفال العالم صناعة القنابل والمتفجرات وأمصال السموم والمخدرات ويحقنونهم بسواد مشاهد الدعارة والعنف والكراهية والخروج على الأعراف والتقاليد والتعاليم الدينية والتربوية.. أفلت زمام الإعلام من دهاقنته وأفلت حتى من دهاقنة أمن المعلومات.. لا حكومات الدول المتقدمة قادرة على كبح هذا الاجتياح الطوفاني القذر ولا الدول النامية.. ما إن يسد ثقبٌ في هذا الجدار الهلامي حتى تنفتح ثقوبٌ أخرى لجهنم.
إن "سدوم" التي أهلكت بعهرها تجد لها في المواقع الإلكترونية سدومات أحقر.. وإن جنون "نيرون" الذي أحرق روما يتجسّد اليوم بنيرونات يملكون من العلم شياطينه وأبالسته يعرضونها في برامج وأفلام كارثية ترعاها مؤسسات ويُجنّد لها ممثلون ومخرجون تكتظ اللعنة في أذهانهم ولتذهب البشرية للجحيم!
إن هذا الإعلام الجديد يحيل العالم إلى خراب روحي.. عدته وعتاده هاتفٌ محمولٌ لا يكاد يحس بحمله صاحبه أو صاحبته.. لكنه كائنٌ لا تحتمل خفته.. أغرى الغرائز بالصراخ.. أغرى النفس الأمّارة بالسوء لكي تتقيأ شرورها.. منح الجميع طاقية الإخفاء وسترته لتصفية الحساب والطعن والتدليس.. قاد القول إلى الاعوجاج والفعل إلى التفسُّخ الرجيم.. تراجعت الطهارة والمحبة والخير والعاطفة الإنسانية.. ومواقع الثقافة والفكر والمعرفة باتت أشبه بجنائز في انتظار الدفن!!
لا بد لهذا الفضاء المفتوح.. لهذا الإعلام الجديد من برلمان عالمي للأخلاق يقول كلمته فيه.. فلم تعد المسألة خلافاً في السياسة والثقافة.. وإنما تسلل الشذّاذ والمجرمون والفسقة إلى مخادع العالم.. صاروا كابوسه يشكلون وعيه الجمعي ولا وعيه.. والانحباس الحراري الذي نخشى على أرضنا منه، أين منه هذا الانحباس الغرائزي المروع الذي نساق إليه؟!
لست حالماً ولا رومانسياً.. ملايين الناس تصعق مشاعرهم شحنات من الفزع من رذائل تعربد بسعارها المجنون في هذا الهولوكوست الأخلاقي.. هذا الوباء الفضائي.. لكنهم مثلي يتجرّعون غصصه ولا حول لهم ولا قوة.. ومع أنني أحسُّ أني أصرخ في وادٍ.. إلا أنني أؤمن بأن عملاً خيراً ما لا بد أن يُنجَز.. والخير دائماً يصنع المعجزات!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي