موت الكاريزما
منذ نشر الناقد الإنجليزي رولان بارت مقالته عن "موت المؤلف" معلناً ولادة القراء.. قيل الكثير عن هذا المصطلح، غير أن الفكرة الأساسية تتمحور حول أن كل نص مكتوب ليس نصا قائما بذاته من صنع الكاتب كلية، وإنما هو سليل نصوص أخرى سابقة ولاحقة، بما فيها فهم القارئ للنص، نتج عنها وهو ما أصبح يعرف بـ "التناص"، وفي تصوري أن رؤية بارت هذه تجد جذورها عند "داروين" صاحب نظرية التطور وأصل الأنواع.
لكن مقولة موت المؤلف فتحت الباب واسعا لميتات أخرى من نوع: موت الأيديولوجيا، موت اليوتوبيا، موت الأدب، موت البطل، موت السبب الواحد، موت الحداثة.. وأحيانا يتم التعبير عن الموت بـ "ما بعد" مثل ما بعد الحداثة أو ما بعد الأيديولوجيا.. أو يعبر عنه بـ "نهاية" مثل نهاية التاريخ التي قال بها فرانسيس فوكوياما أو نهاية الحكايات الكبرى ويقصد بها الأيديولوجيات الشمولية، على أن المهم في هذا "الموت" أو الـ "ما بعد" أو "النهاية" هو كونها كلها دلالات لغوية تشير إلى أطروحات فكرية كان لها سحرها وبريقها وجاذبيتها "كاريزماها" التي كانت تستحوذ بها على العقول وفقدتها.. وتبددت عنها تلك الهالة إلى ما يشبه النقيض، وكان حطام جدار برلين رمزاً مكثفاً لتناثرها الأخير، فقد احتلت المشهد بعدها تعويذة كونية أخذت تصدح بها جميع الأفواه هي عبارة "حقوق الإنسان" وتقدم الفرد.. الأفراد.. الشعوب.. ليكونوا سدنة مستقبلهم، أو هكذا بدت فحوى الخطاب ونوع الموقف.
كان القرن الماضي مليئا بكاريزمات، فعلى مستوى السياسة كان هناك التحرر من الاستعمار وتقرير مصير الشعوب ونشيد الأممية والعالم الحر وشخصيات مثل: غاندي، ماو تسي تونج، شوان لاي، لينين، ستالين، الملك عبد العزيز، تيتو وسكارنو، جمال عبد الناصر، ديجول، تشرشل، نكروما، لوممبا، آيزنهاور، روزفلت، كيندي، هو شي منه، جياب، جيفارا، وكاسترو... إلخ، وعلى مستوى الإبداع كان هناك بيكاسو، وسلفادور دالي، برايتون، أبلوار، سارتر، همنجواي فوكنر، أوسكار وايلد، برنارد شو، كازنتزاكي، إليوت، وايتمان، جويس بريخت كافكا ميلر هربرت ماركوز، برتداند راسل، توينبي، مورافيا، كونديرا.. كواباتا، ميشيما... إلخ، ومدارس فنية كالسريالية والتكعيبية والغصب، والعبث وفرق موسيقية غيرت نمط الإيقاع واللحن واللغة واللباس وقصة الشعر كالبيتلز، وكان للفن العربي أيضاً كاريزماه في: أم كلثوم، فيروز، وعبد الوهاب، وفي الثقافة طه حسين، نجيب محفوظ، مارون عبود، علي الوردي، محمد العروي، أبو القاسم الشابي، نزار قباني، الجواهري، حمد الجاسر... إلخ.
اليوم.. "في عالم تحكمه العولمة ويديره المصرفيون والتكنوقراط يشعر كثير من الناس بأنهم لا ناقة لهم ولا جمل في الشؤون العامة وأنهم تحولوا إلى كم مهمل" - على حد تعبير إيان بوروما.. وفي ظل موت الكاريزما والخيبات التي أعقبتها وصعود المصرفيين والبيروقراطيين تحت خيمة العولمة، يتعاظم المدّان الفردي والشعبي للاعتصام بتعويذة (حقوق الإنسان)، وفي المقابل، ينفرط العالم الذي كان متماسكا، وتنفلت من قماقمه عفاريت بشرية حانقة على ما كان وما هو كائن، فالبلدان التي كانت ملتمة تكسرت شظايا، والأمم التي كانت منصهرة تمايزت عرفيا ومذهبيا ودينيا وثقافيا وجغرافيا، والعولمة التي جعلت العالم قرية افتراضية دفعتها واقعياً إلى البلقنة والصوملة.. وبدلا من التلاقي على صعيد الإنسانية تعالت صيحات الأصوليات والعصبيات والعنصريات في الغرب ضد المهاجرين، الأجانب والأوروبيين ضد بعضهم، أما العرب فالذي يتقدم عندهم هو التخلف.. فربيعهم يهرول إلى فقه الكهوف والنعرات.. فهل تحول العالم إلى سرادق عزاء لموت الكاريزما، أم أن الكاريزما ستنهض من رمادها من جديد كطائر الفينيق؟!