قبل أن تضيع الفرص .. رؤية خليجية لتحقيق التنمية

بفضل الأوضاع الاستثنائية لأسعار النفط المصدر الرئيس لإيراداتها خلال الأعوام القليلة الماضية وحتى وقتنا الحالي، توافرت لدول مجلس التعاون الخليجي أوضاع اقتصادية استثنائية. هذا الواقع الاستثنائي يتطلب بالمقابل (من وجهة نظرنا) سياسات اقتصادية أيضاً استثنائية حتى نتمكن من مواجهة التحديات التي تفرضها مثل هذه التطورات على اقتصاداتنا وخططنا المستقبلية. فدول الخليج معنية بإعادة هيكلة اقتصاداتها وتوسيع قاعدتها ليس فقط لاستيعاب هذه الموارد المالية الضخمة التي تتيحها (الطفرة)، وإنما لتحويل تلك الموارد من مدخرات مالية عابرة إلى أصول إنتاجية ثابتة على قاعدة من التنمية المستدامة التي تستهدف الإنسان وسيلة وغاية للتنمية.
يجدر بنا في غمرة فيضان مواردنا المالية بفضل النفط الذي سجلت أسعاره مستويات قياسية خلال الفترة الماضية وبلغت ذروتها في تموز (يوليو) الماضي عندما بلغ سعر البرميل 78 دولارا، أن نعود القهقرى ثماني سنوات إلى الوراء لنستذكر معا كيف هبط برميل النفط إلى تسعة دولارات وثمانية دولارات!!
يعتقد البعض أن الفجوة بين ما ينبغي أن نقوم به في دول الخليج وما نقوم به بالفعل على أرض الواقع، هو بقدر الفجوة بين 8 إلى 78 دولارا لبرميل النفط!!. لذا أرى أن الوقت قد حان للانعتاق من (فخ التأرجحات السعرية) للنفط واستثمار الموارد المتاحة لتمويل خطط واستراتيجيات لتحقيق التنمية المستدامة لشعوب المنطقة.

طفرة نفطية:
بقراءة عابرة لمؤشرات الطفرة النفطية (الثانية) في دول مجلس التعاون الخليجي يمكننا ملاحظة التالي:-
ـ تطور عوائد النفط في هذه الدول وارتفاعها إلى مستويات قياسية، حيث إن إيرادات دول المجلس النفطية عام 2005 بلغت نحو 300 مليار دولار حسب أكثر التقديرات تحفظاً. ومن المتوقع تجاوز هذا السقف بكثير خلال العام الجاري، إذا أخذنا في الاعتبار مستوى أسعار النفط الخام التي شهدت خلال أغلب فترات السنة استقرارا فوق مستوى 60 دولارا فيما تتأرجح حاليا في نطاق سعري يراوح بين 55 و60 دولارا.
- الإيرادات المالية المتحققة لدول الخليج، عام 2005، تمثل ضعف إيراداتها عام 2000، وأكثر من ثلاثة أضعاف إيراداتها عام 1999. ولو نظرنا إلى معدل زيادة إيرادات هذه الدول لوجدناه كالآتي: السعودية زادت إيراداتها خلال العام الماضي بنحو 49 في المائة والإمارات 44 في المائة والكويت 41 في المائة وقطر 28 في المائة.
- هذه الإيرادات تحققت بنظرنا لسببين رئيسيين: ارتفاع أسعار النفط بنسبة وصلت إلى نحو 44 في المائة عام 2005، ووصول إنتاج دول المجلس إلى ذروته عام 2005 لتلبية تزايد الطلب العالمي على النفط.
- على صعيد المملكة العربية السعودية، يجدر بنا الإشارة إلى أن التقرير الصادر عن بنك دويتشة توقع أن تحقق الميزانية السعودية للعام الجاري فائضا ضخماً يفوق 400 مليار ريال (هذا تقرير البنك)، ينتظر أن تستخدمه الحكومة السعودية للاستمرار في سداد الدين العام، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية، خاصة في التعليم والصحة.
واقع مختلف:
عندما نتحدث عن مستقبل دول مجلس التعاون الخليجي، فإننا ننطلق من تجارب سابقة لهذه الدول، خاصة مع تجربة الطفرة النفطية الأولى، حيث يمكننا استصحاب كل ذلك والاستفادة من الدروس والعبر التي تعلمناها لتعظيم فوائد هذه المرحلة. لكن في الوقت نفسه علينا ملاحظة فوارق رئيسة بين الطفرة النفطية الحالية والسابقة وذلك على النحو التالي:
ـ طفرة اليوم يتوقع لها أن تستمر بعض الوقت بسبب تزايد الطلب العالمي على النفط, خاصة من جهة آسيا وعلى رأسها الصين والهند. ومن مؤشرات ذلك على سبيل المثال، أن متوسط أسعار برميل النفط للصفقات الآجلة تسليم نهاية عام 2011 تراوح بين 60 و66 دولارا للبرميل. كما أن كل الدلائل تؤكد أن الطلب العالمي المتزايد وطاقات الإنتاج المحدودة للأقطار المصدرة للنفط ستعمل ككابح تحول دون انزلاق الأسعار. وفوق ذلك هناك توقعات لدى شريحة من المحللين النفطيين ببلوغ أسعار الخام مستوى 100 دولار للبرميل!! هذه التوقعات لا يمكن تجاهلها!!
ـ طفرة اليوم تأتي في ظل فوائض في الموازنات الخليجية، وتراجع في معدلات خدمة الديون.
ـ طفرة اليوم غير مصحوبة بارتفاع في معدلات التضخم في دول المجلس فضلا عن أنها تأتي مصحوبة بمعدلات نمو حقيقي مرتفعة في دول المجلس. فالسعودية على سبيل المثال حافظت على معدلات نمو حقيقية جيدة منذ عام 2003 حيث حققت في ذلك العام نمواً بمعدل 7.2 في المائة، و3.6 في المائة خلال عام 2004 ليرتفع إلى 6.5 في المائة خلال عام 2005. ومن المتوقع أن تحافظ المملكة على معدل نمو مرتفع خلال عام 2006 وكذلك كل دول الخليج التي ظلت تحقق معدلات نمو حقيقية جيدة خلال السنوات الماضية.
- طفرة اليوم مصحوبة بزيادة في مؤشرات الحرية الاقتصادية واندماج الاقتصادات الخليجية في الاقتصاد العالمي مقارنة بما كانت عليه في الماضي. وإذا نظرنا إلى تطور مؤشر مستوى الحرية الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي عام 2005 مقارنة بعام 2004 سنلاحظ زيادة معدلات الحرية الاقتصادية العام الماضي في كل من السعودية والبحرين ومحافظة باقي الدول على مراكزها. ويقيس المؤشر الحرية الاقتصادية في 177 دولة من بينها 17 دولة (عالمية) خارج نطاق الشرق الأوسط.

بيئة مواتية:
كل هذه المؤشرات تعكس حقيقة أن البيئة الاقتصادية مواتية في المنطقة، لاستغلال هذه الطفرة النفطية لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل في بلدان مجلس التعاون الخليجي والتخلص من الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على قطاع واحد وهو النفط. كما أن التوقعات باستمرار هذه الطفرة النفطية لفترة طويلة قادمة يعزز فرص تحقيق مثل هذه الأهداف، باعتبار أن تحول الاقتصادات الخليجية من اقتصادات ريعية إلى اقتصادات متنوعة هدف هيكلي لن يتحقق إلا في الأجل الطويل, ولذلك نرى أن ثمة فرصة تاريخية نادرة متوافرة حاليا وأننا أمام مسؤولية عدم إضاعة هذه الفرصة!!
ومع ذلك فإن الطفرة في ذاتها لا تخلو من (منغصات اقتصادية) وسلبيات يمكن أن تصاحبها وهي بالتالي تتطلب إجراءات لاحتوائها. فهذا الوضع الاقتصادي الاستثنائي إذا لم يتم التعامل معه كما ينبغي، قد يؤدي في النهاية إلى تقليل سرعة وتيرة الإصلاحات الاقتصادية في دول المجلس, خاصة تلك المرتبطة بالتخصيص، الإصلاح المؤسسي والإداري، والإصلاح الهيكلي والتشريعي .. إلخ. وفي الوقت نفسه فإن تزايد المطالبات في بعض دول المجلس بتنفيع المواطنين بجزء من العوائد النفطية بشكل نقدي مباشر بطريقة مبالغ فيها، قد يؤجج معدلات التضخم، كما أن تزايد معدلات الإنفاق الاستهلاكي العام والخاص في دول المجلس سيؤدي حتماً إلى زيادة في معدلات الاستيراد. وما لم تضخ هذه الموارد لزيادة الاستثمارات فقد يترتب على ذلك إسراف في الإنفاق على بناء المنشآت والعقارات التي تمتص جانبا كبيرا من السيولة وتحتاج إلى وقت طويل لتحقق عوائد.
تحديات اقتصادية
يمكننا القول إن كل ما يتحقق من (ازدهار آني) أو طفرة مالية أو تضخم في الموارد المالية والاحتياطات النقدية، لن تجعل دول الخليج بمنأى عن التحديات ما لم توضع الخطط والاستراتيجيات الملائمة لضخ كل تلك الموارد لتحقيق التنمية المستدامة. ما لم تفعل دول المنطقة ذلك فستجد نفسها أمام التحديات التالية:-
ـ تأثر وتيرة التنمية والنمو بتقلبات الأسعار العالمية للنفط.
ـ ستجد معظم بلدان مجلس التعاون الخليجي نفسها أمام تزايد معدلات البطالة.
ـ سيترتب على ذلك تزايد الاعتماد على العمالة الوافدة، وما يصاحب ذلك من اختلالات في سوق العمل، وتزايد تحويلات هؤلاء العاملين إلى خارج الاقتصادات الخليجية.
فضلاً عما سبق فثمة مشكلة بنيوية لدى هذه الدول تتمثل في وجود تشابه في معظم المشاريع الصناعية لديها، وهو ما يضعف قدراتها على زيادة حجم التجارة البينية، وقدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية. ولا بد في هذا المقام من التنويه بخطورة ما نلاحظه من استقطاب اقتصادي لبعض دول المجلس التي بدأت تبرم اتفاقيات ثنائية للتجارة الحرة مع بعض الدول الأجنبية بشكل منفرد، وهو ما يؤثر في خصوصية التكتل الاقتصادي لدول المجلس.
الوصايا السبع:
حتى لا نتهم بالتركيز على الجانب النظري، فلا بد لنا من الإشارة إلى بعض الخطوات التي يمكن من خلالها لدول الخليج على وجه العموم والسعودية على وجه الخصوص، استغلال الطفرة النفطية لتوسيع قاعدتها الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل فيها وذلك على النحو التالي:-
ـ على هذه الدول جميعاً اعتبار الطفرة النفطية من أدوات ومحفزات الإصلاح الاقتصادي وليس من عوامل تباطؤه أو عرقلته.
ـ الحد من تكريس البيروقراطية العامة في الأجهزة التنفيذية والعمل على سن تشريعات أكثر تحرراً, الأمر الذي سيساعد على تهيئة مناخ الاستثمار بما يحد من تدفق رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج.
ـ منح الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة الاهتمام الكافي الذي تحظى به المشاريع الكبيرة في دول المجلس.
- إعادة هيكلة قطاع الصناعة للاستفادة من الطاقات العاطلة والمزايا النسبية والتنافسية، وزيادة القدرة على المنافسة، مع زيادة الاهتمام بالصناعات التي تحقق قيمة مضافة مرتفعة وخاصة الصناعات كثيفة التكنولوجيا والمعرفة.
- التوسع في برامج ترويج الصادرات والخدمات المالية.
- تطوير القدرات الذاتية لتنمية واستيعاب التكنولوجيا وتوطينها.
إلا أنه من الضروري إيلاء حتمية وأولوية لتوجيه معظم الزيادة في عوائد النفط إلى الاستثمار في العنصر البشري باعتباره العنصر الأهم في عملية التنمية. إن ذلك يتحقق فقط من خلال زيادة مخصصات الإنفاق على التعليم والتدريب حتى تأتي مخرجات التعليم ملبية لاحتياجات التنمية الشاملة في دول المجلس وتقلل الاعتماد على العمالة الوافدة.

السعودية تتحرك:
لا يعني ما سبق أن المملكة العربية السعودية وشقيقاتها في دول مجلس التعاون لا تدرك متطلبات التنمية الشاملة، بل تقتضي الأمانة الإشارة إلى جهود عظيمة بذلت في هذا المضمار. لقد لاحظنا جهود قياداتنا في إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي وإعداده لمرحلة ما بعد النفط من خلال المشاريع الاقتصادية الكبرى.
وحتى نضع النقاط على الحروف فإنه يمكننا القول إننا في دول مجلس التعاون أمام تحديات تستحق منا وقفة، وفي مقدمتها التفكير في إقامة منتدى خليجي موسع تطرح فيه مختلف آراء الاقتصاديين والخبراء حول القضايا سالفة الذكر وعنوانها (تحويل الواقع الاقتصادي من طفرة طارئة إلى تنمية مستدامة). إننا أمام حالة استثنائية تستحق ابتكار سياسات وأفكار استثنائية!! ولتحقيق ذلك فلماذا لا نفكر في تشكيل فريق من المفكرين الخليجيين يضم أكاديميين واستراتيجيين لدراسة التطورات وتقديم مقترحات بشأن التعامل مع المستجدات بالفكر والآلية التي تناسبها؟ هذا الفريق يعنى بابتكار أدوات وأساليب جديدة لإدارة التطورات الحالية (التي تتسم بسرعة التغيير) لصالح اقتصادات المنطقة، ومناقشة تلك التطورات وما ينبغي عمله تجاهها من خلال المنتدى الذي أشرنا إليه, الذي يتضمن فعاليات حكومية وأهلية .. فعلينا تهيئة أي شكل من أشكال الحوار الاقتصادي.
إنها مجرد أفكار وخواطر ومحاولة لرسم خريطة طريق للتعامل مع مستجدات العصر ومتطلبات ومقتضيات المرحلة المقبلة .. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي