الضوابط الشرعية لعمل المرأة السعودية

[email protected]

في عام 1993 أشعل هنتنجتون نقاشاً مستعراً حول العالم في العلاقات الدولية بنشره في مجلة "العلاقات الخارجية"مقالاً شديد الأهمية والتأثير بعنوان "صراع الحضارات", المقالة تناقضت مع نظرية سياسية أخرى متعلقة بديناميكية السياسة الجغرافية بعد الحرب الباردة لصاحبها فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ". بعدها قام هنتنجتون بتوسيع مقالته إلى كتاب صدر عام 1996م بعنوان "صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي".
صياغة النظام العالمي تسير وفق أهداف محددة وجدول زمني دقيق، فقد تحقق لهم (أولاً) زرع بذور الفتنة الطائفية بين المسلمين. ( ثانياً) زرع بذور الفتنة بين الحُكام ومجتمعاتهم بمطالب الإصلاح والديمقراطية. (ثالثا) زرع بذور الفتنة داخل المجتمع الإسلامي نفسه وذلك بإثارة العادات والتقاليد وتداخلها مع مفهوم الضوابط الشرعية, خاصة في عمل المرأة وكيفية وضع الحجاب.
ومقالي يختص بالبند الثالث الذي أصبح مثل كرة الثلج انتقل من أوروبا إلى شمال إفريقيا، وأخاف أن تنفجر في الخليج العربي, خاصة بعد المزايدة الإعلامية على تصريح وزير الثقافة المصري حول حجاب المرأة؛ وكأن المجتمع العربي أصبح علي صفيح ساخن، يثور ويزبد على الفروع بينما تعيش الأمة أزمة في الأصول. والناظر إلى منطقة الشرق الأوسط يراها تتأجج لهيباً منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وأصبح نظام "محاربة الإرهاب" كالنار المستعرة تأكل الأخضر واليابس.
هذه المقدمة العظيمة كان لا بد منها حتى نستشعر حجم الخطر الخارجي ونعمل على ترتيب بيوتنا من الداخل اجتماعياً واقتصادياً، خاصة ونحن مقبلون على مفهوم جديد في مشاركة المرأة السعودية في الحياة المدنية، حيث إن أي نظام يصدر بقرار ملكي أو وزاري لن ينجح طالما أننا نترك داخلها جملا نظامية عامة؛ لأنه ستستمر آثارها وتنتقل إلى اللائحة التنفيذية دون تفسير أو إطار يحددها. ومنها جملة "الضوابط الشرعية" التي نلاحظها دائماً في كل موقع توجد فيه المرأة السعودية، حيث تتداخل الجملة مع المفهوم الأوسع للمشرع السعودي الذي وضع القواعد الشرعية بصفة العمومية في المواد: الأولى والسابعة والثامنة من نظامه الأساسي للحكم, وكذلك التزم بها بصفة الخصوصية في الأنظمة التي يصدرها كافة.
لذلك فإن المطلوب الآن هو تحديد إطار "الضوابط الشرعية" لعمل المرأة من أعلى هيئة شرعية, وهو مجلس القضاء الأعلى, حتى لا يحصل سوء فهم كما حصل في القرار الملكي رقم 120 لعمل المرأة الصادر بتاريخ 12/4/1425هـ, الذي نص على تسعة إجراءات لتوسيع فرص عمل المرأة, وكان في سياق الأمر الملكي جملة "الضوابط الشرعية" الذي تبعه القرار الوزاري رقم 1/793 بتاريخ 22/5/1426هـ بشأن تطبيق ضوابط العمل ولم يشر إلى كيفية آليات الشرعية, ولأهمية هذا القرار اجتماعياً واقتصادياً إلا أن وزارة العمل لم تستطع تطبيقيه عملياً لاختلاف توجهات المجتمع والمناطق في السعودية، فكثرت التفسيرات الشرعية والاجتماعية حول هذا الأمر فتعطل توظيفها، فصدر قرار آخر من مجلس الوزراء رقم 187 بتاريخ17/7/1226هـ بشأن تشغيل المرأة في القطاع الخاص وتطبيق ضوابط تشغيلها، ومع ذلك لم تحرك هذا القرارات أي شيء؟ آخر المطاف رجعنا إلى قرار مجلس القوى العاملة رقم 1/19م/1405 بتاريخ 1408 هـ بناء على الأمر الملكي رقم 111/8 بتاريخ 1408هـ بأن يكون عمل المرأة طبقا للضوابط التالية (موافقة ولي أمرها, ألا يعوقها عن أداء واجباتها المنزلية والزوجية, أن تعمل في مكان منفصل, وأن تودي عملها بوقار وحشمة). جمل نظامية رائعة ولكن من أفضل تحديد إطارها، وهناك حالات كثيرة في الجوازات ومكاتب العمل والهيئة لاختلاف الجميع علي تفسيرها. هنا أطلب من القارئ التوقف لحظة إنسانية واقتصادية ونقرأ إحصائيات ودراسة وزارة العمل الأخيرة التي تؤكد أن 26 في المائة بطالة من الخريجات السعوديات حتى نهاية عام 2006. وعلى الرغم من تزايد أعداد الخريجات الجامعيات إلا أن نسبة عملهن لإجمالي القوى العاملة لا تتجاوز ما نسبته 4.5 في المائة. ومما يزيد أيضا من خطورة البطالة على المجتمع ما أظهرته الدراسة أن 95 في المائة من العاطلين عن العمل لا تعمل أمهاتهم أو زوجاتهم فهن (ربات منزل) وفقط 3.5 في المائة يعملن موظفات. وهذا يعني أن أكثر من 40 في المائة من أسر العاطلين عن العمل لا يعمل الأب ولا الابن ولا الأم ولا الزوجة, وهذه كارثة كبيرة لها تبعات سلبية على المجتمع. وفي محاولة يائسة أصدرت وزارة العمل قبل أيام تعديلا للنظام الجديد بالقرار الوزاري, الذي وُزِّع على مكاتب العمل في السعودية بالنص التالي: استثناء من حكم المادة (150) فإنه يجوز تشغيل المرأة في الحالات التالية:
1- إذا كان العمل صحياً أو خيرياً أو تعليمياً أو تدريبياً.
2- إذا كانت المنشأة لا تستخدم سوى أفراد الأسرة.
3- حالة القوة القاهرة وحالة الطوارئ.
4- إذا كان العمل الليلي ضرورياً للمحافظة على المواد من التلف السريع.
إن توحيد الأسس الشرعية والاجتماعية لوطن واحد، وعلى قاعدة المساواة الشرعية للرجل والمرأة أمر واجب، فيكفينا اكتواء من لهيب المزايدات الشرعية والشعارات الاجتماعية, فلا أحد يرغب في أن يوصم بالعلمانية, لأنها في الختام تفرض علينا السكون للقاعدة القانونية "يبقى الوضع كما هو... وعلى المتضرر اللجوء إلى الجهة المختصة".
إن المجتمع السعودي يقر إقراراً شرعياً بأن الحجاب يمكِّن المرأة المسلمة من تحقيق المساواة التي تنشدها وإثبات وجودها والاضطلاع بالمهام التي يحتاج إليها المجتمع منها. ويستمد الحجاب أهميته من دوره الذي يؤديه في حماية المرأة من الأذى والاعتداء والتحرش، فهو يصون المرأة ويحميها، عوضاً عن حمايتها بالنظام أو رجال الشرطة، ولكن الشريعة الإسلامية لم تشرع الحجاب إلا لتقنين وضع المرأة في المجتمع، فهو حجاب لها وليس حجباً لدورها، ولم يُشرع للتضييق عليها وحبسها ومنعها من المشاركة في بناء مجتمعها، فالإسلام لا يدعو إلى منع المرأة من المشاركة في الحياة، وإلا فما الداعي إلى إقرار الحجاب إذا كانت المرأة لا تخرج إلى العمل وتتعامل مع المجتمع.
ومن مظاهر عظمة الإسلام أنه راعى الفوارق في الأذواق البشرية فلا يمكن أن يقبل المجتمع السعودي حجاب طالبان الرسمي وكذلك المجتمع المصري لن يقبل حجاب الخليجية، لأن هناك تباينا في التقاليد الاجتماعية، واختلافا في الأمزجة والطبائع والبيئات والأحوال المناخية، فلم يفرض شكل محدَّد للحجاب، بل وضع له ضوابط شرعية، كأن يغطي الجسم كله، وألا يكون شفافاً يبرز ما تحته، وألا يكون ضيقاً يبرز مفاتن الجسد، وألا يكون زينة في نفسه، وألا يكون معطراً، وفيما عدا ذلك فإنه بإمكان المسلمين أن يختاروا شكله ونوعه وطرق صنعه وحياكته كيفما شاءوا، كل حسب بيئته وذوقه واختياره. والأمة الإسلامية جميعاً ضد من يدعون إلى السفور والتبرج، لأن المذاهب السنية الأربعة اختلفت في حكم كشف الوجه أو غطائه.
أنتقل بعد ذلك إلى وسائل الإعلام بجميع أشكالها، التي تتمتع بقدرة هائلة على تشكيل الرأي العام وتغيير توجُّهاته، ويتفوق الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام على دور المؤسسات التعليمية والتثقيفية التي تتولى إعداد الأجيال وتشكيل وعْيهم والمحافظة على سلوكيات المجتمع وتقاليده. وللإعلام دور كبير في تشكيل الوعي بأهمية دور المرأة في المجتمع والرسالة المنوطة بها. وينفرَّد التلفزيون بأهمية خاصة بين تلك الوسائل الإعلامية، إذ إنه يخاطب كل شرائح المجتمع باختلاف أعمارها ودرجات وعْيها وثقافتها ومستوى تعليمها. ومن أهم الوسائل التي يستخدمها التلفزيون الدراما، حيث يتناول معظم الأعمال الدرامية التي يقدِّمها التلفزيون الخليجي, خصوصا قضية المرأة، فبعضها يصوِّر المرأة على أنها مهضومة ومظلومة ومسلوبة الحقوق، وبعضها يقدِّم صورة جديدة للمرأة العصرية "من وجهة نظرهم" فيقدِّمها سافرة وجريئة، وقليل من هذه الأعمال الدرامية ما يقدم صورة حقيقية وواقعية للمرأة الخليجية.
ومن هذا الواقع, يجب تشكيل رأي عام وموحَّد حول قضايا المجتمع الملحَّة وفي مقدمتها قضية المرأة وصورتها في وسائل الإعلام، إذ إنها تمثِّل نصف المجتمع والحارس على الأجيال المقبلة والقائم على مهمة تربيتها وتنشئتها، وتؤثر صورتها في وسائل الإعلام في نفسيتها وقابليتها وقدرتها على القيام بالمهام الجسيمة الملقاة على عاتقها، وأن ترفع من قدر المرأة وتعيد إليها حقوقها التي كفلها لها الإسلام وسلبها إياها البعض بدعوى التقاليد والتفسيرات الخاطئة لنصوص الدين. عندها يمكن للمرأة أن تضطلع بمهامها الأسرية والعملية المنوطة بها بروح جديدة، بعد أن تشعر أن مجتمعها قد أنصفها.
ختاما خلفنا جيل من الشباب والشابات يمثلون 65 في المائة من التعداد الوطني للسعودية، متوسط أعمارهم 20 عاما! لذلك فإن الجيل المقبل ينتظر البشائر لتحسن أوضاع المرأة بصفة الخصوص والشباب بصفة العموم، والسعودية تشهد حركة تطور مضطردة من طفرات اجتماعية واقتصادية هائلة تحولت بموجبها من اقتصاديات بدائية إلى اقتصاديات صناعية والآن خدمية بعد إنشاء المدن الاقتصادية. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك التطوُّر في المجتمع إلى تطوُّر في وضع المرأة باعتبارها جزءاًً أصيلاً منه ومكوناً رئيسا من مكوِّناته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي