هل الإيجابية حبوب مخدرة؟
''وين الإيجابية يا أبو إيجابية؟ قاعد تدندن علينا إيجابية وبعدين نتذمر وتتأفف وتنتقد!''
هذا هو الرد الساخر الذي أحظى به أحيانا عندما أبدي امتعاضا من شيء، أو تذمرا من وضع، أو شكوى من حال في مجموعتي الصغيرة من خاصة الأصدقاء على برنامج (واتس أب)!
قلت: هي تهمة أعتز بها وأفتخر، وليتني فعلا إيجابي.. فأنا أحاول فقط، فهل الإيجابية أن يرضى الإنسان عن كل شيء طوال الوقت؟
هل الإيجابية ألا ينتقد الإنسان وضعا خاطئا؟
هل الإيجابية ألا يشتكي الإنسان من ألم يشعر به أو يتذمر من وضع سيئ وجد نفسه فيه؟
هل الإيجابية هي مخدر يتعامى به الإنسان عن وضعه الحقيقي فيسبح في بحر الأوهام والأحلام؟
الإيجابية لا تعني أبدا الأمل الكاذب والحلم الوردي في تحقيق شيء لا يمكن تحقيقه، لا تعني أن يرمي الإنسان ببذرة على أرض صلبة من غير ماء ولا عناية، ويظن أنه بشيء من التفكير الإيجابي ستنبت وتكون بستانا! وهي لا تعني أبدا الاستمرار في مشروع فاشل أو خطة غير مجدية على أمل أنها تصحح نفسها بطريقة ما، كالذي يرى السفينة تغرق ويظل نائما فيها آملا أن تحصل معجزة وينجو. وهي كذلك لا تعني إغماض العينين عن الأخطاء والتعامي عن المشكلات وتأجيل القرارات الصعبة. ولكنها تعني بالضرورة عدم التركيز على السلبيات فقط، والمشكلات فحسب، والغرق في اختلاق المشكلات والتذمر المرضي من كل شيء.
الإيجابية ليس مثالية زائفة تعذب الإنسان وتدفعه إلى ما لا يمكنه تحقيقه فتبقيه في لهاث دائم، بل هي واقعية وعملية، تعترف بالتدرج وتتبنى المرحلية، ولكنها ليس واقعية سلبية تبرر الخطأ وتختلق الأعذار وتكرس الفشل. ليست واقعية تكسر مجاديف الأحلام والطموحات، ليست واقعية تثبط عن خوض التحدي ودفع الذات إلى الأعلى والأمام.
والإيجابية لا تعني أيضا أن ينسلخ الإنسان من إنسانيته، فيمنع نفسه من أن يفضي إلى صديق بهمه، أو يضع حمله بين يدي زوجه بألمه، أو يسمح لنفسه أن تستسلم أحيانا لشيء من الفتور والاضطراب. ولكنها تعني أن الإنسان إذا انزلق إلى هذه الحالة سرعان ما يتذكر رحمة الله، ويتجدد في نفسه الأمل، وينهض من جديد.
الإيجابية باختصار، طريقة تفكير، تتلمس الجمال، وتزرع الأمل، وتنتج الفكرة الفاعلة، وتبث الطاقة الإيجابية، وتصدح بالكلمة الطيبة، وتنقل الإنسان من دائرة ردة الفعل إلى دائرة الفعل. هذه الطريقة في التفكير تؤدي بالضرورة إلى (المبادرة). المبادرة هي التي تتحول فيها طريقة التفكير هذه إلى نتائج على أرض الواقع. فلا يتصور أن يكون الإنسان مبادرا وهو صاحب تفكير سلبي مشلول. هذه المبادرة لتغيير الواقع وبناء المستقبل هي التي تؤدي إلى (الفاعلية) والتغيير والنجاح الشخصي ثم الجماعي بإذن الله.
هي إذن حلقات ثلاث لا تنفك: في العقل والنفس (إيجابية) تبحث عن الجوانب المضيئة، وفي الواقع (مبادرة) تشعر بالمسؤولية فتقتنص الفرص وتبذل الجهد، وفي النتيجة (فاعلية) تغير الواقع وتصنع المستقبل. تفكير إيجابي، فمبادرة واقعية، فتغيير للأفضل.
أما بعد استفراغ الجهد وبذل الطاقة، تبقى الإيجابية بوجهها الآخر رضا بما قسم الله، واطمئنانا في القلب بما كتب، واستلهاما لفيوض بركاته وإنعامه فيما أعطى ومنع، وإدراكا حقيقيا بأن ما قدر خير وفضل.
الإيجابية الحقة إذن بمصطلح طبي: حبوب منشطة ومحفزة في كل ما يمكن للإنسان تغييره ويقع ضمن دائرة تأثيره، وهي حبوب مضادة لليأس والكآبة جالبة للاطمئنان والسعادة تساعد في تقبل كل ما هو خارج عن دائرة تأثيره فيما قدره الله عليه ولا حيلة له فيه. وأما إذا استخدمت كحبوب مخدرة فإنه استعمال مخالف للوصفة الطبية المعتمدة!
وما أجمل ما قال تشيب كونولي نقلا عن شعب (بوتان) الذين تعلم منهم الكثير: ''السعادة معادلة بين أن تحصل على ما تحب وأن تحب ما تحصل عليه''.