تجربة «مرصد التعليم العالي» وضرورة توسيعها وتعميمها

أحد الأصدقاء يقول إن انتشار الإنترنت الذي أصبح مهما كالماء والكهرباء في المنزل والمكتب وفي كل مكان وانتشار البرمجيات ومواقع التواصل الاجتماعي أنه أصبح أكثر فاعلية وكفاءة في حياته بعد أن زالت عنه غشاوة الانطباعات الشخصية كعنصر أساسي في اتخاذ مواقفه وقراراته وتصرفاته وتخطيطه لمستقبله ومستقبل أبنائه وتعامله مع الآخرين، ويبرر ذلك بأن قوة المعلومات التي يصل إليها بسهولة من خلال الإنترنت وإمكانية اختبار آرائه وأفكاره من خلال الحوار مع الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي جعلاه أكثر قدره على التحليل والمقارنة والتشخيص الدقيق وبعبارة أخرى أكثر قدرة على قيادة نفسي بفاعلية وكفاءة بدل أن أترك تلك المهمة للصدف أو للآخرين كما هو الوضع سابقا حيث كثيرا ما كنت أشكل مواقفي وقراراتي وتصرفاتي وخططي بناء على ما هو شائع أو مقالة في صحيفة أو نصيحة من شيخ أو مثقف في إذاعة.
وأقول إذا كان هذا حال الأفراد اليوم في ظل التقدم التقني الهائل فمن باب أولى أن تكون المنشآت بكل أنواعها حكومية وخاصة ومؤسسات مجتمع مدني أكثر اعتمادا على قوة المعلومات والحوار عبر المنتديات وحلقات النقاش وغيرها للتحليل والمقارنة والتشخيص ومن ثم التخطيط وفق المنهجيات الحديثة وتنظيم الجهود والطاقات والإمكانات للوصول إلى أعلى درجات الفاعلية والكفاءة للنهوض بمهامها على أكمل وجه وفق مرجعيات علمية دقيقة كمرجعية مؤشرات المقارنة التي باتت أحد أفضل مرجعيات قياس الأداء.
برنامج 10×10 الذي أطلقته هيئة الاستثمار عام 2006م من أحد أفضل البرامج الذي نفذت من قبل جهات حكومية تعتمد التحليل والتشخيص بأسلوب المقارنة مع الآخر لتحديد الموقع والفجوة سواء كانت إيجابية أو سلبية ومن ثم التخطيط على هذا الأساس لسد الفجوة في حال إذا كانت سلبية ووضع مبادرات دافعة أكثر فيما إذا كانت إيجابية، وهو برنامج أشدت به في أكثر من موقع مهما كانت الأقاويل حوله لقناعتي بمنهجيته. ولقد أطلعت على الكتاب الذي وثق هذه التجربة والذي أعده معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية وأنصح كل مسؤول حكومي أن يطلع عليه من باب الاستفادة من تجربة محلية ناجحة يمكن استنباط الكثير من الفوائد منها.
وقبل عدة أيام أهدى لي أحد الأصدقاء العدد الرابع عشر من ''مجلة الراصد الدولي'' وهي نشرة شهرية يصدرها مرصد التعليم العالي في وكالة وزارة التعليم العالي للتخطيط والمعلومات. ولقد أعجبتني فكرة المجلة ومادتها ما دعاني للرجوع لموقع الوزارة للمزيد من التعرف على هذا المرصد ومهامه ومنتجاته الأخرى ولقد وجدت ما يُسعد حيث وجدت ما أدعو له دائما من ضرورة الجمع المنهجي للمعلومات والبيانات والمعارف وتحليلها وفق منهجيات تحليل متطورة للوصول لتشخيص دقيق للوضع القائم ومقارنته مع الآخرين وفق مرجعيات مقارنة دولية للتأكد من مدى التقدم أو التأخر في السباق الحضاري فضلا عن إمكانية تبادل المعارف والخبرات والتجارب.
نعم سعدت كثيرا لأن المرصد ألذي أطلقه وزير التعليم العالي عام 1431هـ هو جهاز وطني للخبرة والدراسة، والتخطيط والمتابعة، والتنبيه والتحليل الاستشرافي لمنظومة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، يعمل على جمع وتحليل البيانات والإحصاءات والمعلومات، وتنفيذ المسوح الميدانية، في جميع المجالات المتعلقة بقطاع التعليم العالي. وتشغيلها ومعالجتها لتتمشى مع متطلبات القياس والمقارنة والنشر والحفظ والاسترجاع لمجالات تنمية هذا القطاع الحيوي بهدف العمل على تحسين أدائه، وهذا ما يحتاج إليه كل جهاز حكومي في بلادنا حتى نصل لأعلى درجات الفاعلية والكفاءة تخطيطا وتنفيذا ومتابعة وتقويما حيث يعتبر المرصد أداة جوهرية للتخطيط ودعم اتخاذ القرار، إذ يمكن عن طريق المؤشرات التي ينتجها الوقوف على مدى التحسن أو التراجع في أحوال قطاع التعليم العالي بشكل دوري، والمقارنة سواء الزمنية أم بين دولة وأخرى أو جامعة وأخرى.
ما أعجبني أيضا أن القائمين على المركز لم يقولوا إن المرصد من بنات أفكارهم بل قالوا وبكل صراحة إن وجود مراصد عالمية مشابهة وناجحة في أكثر من دولة ولدت القناعة بضرورة إنشاء مرصد مماثل في بلادنا في إطار اهتمام حكومة خادم الحرمين الشريفين اهتماما كبيرا بالتعليم العالي وتطويره.
ليس المجال هنا للحديث بالتفصيل عن المرصد إذ يمكن لأي قارئ لهذه المقالة أن يجد هذه المعلومات مفصلة على موقع وزارة التعليم العالي، ولكن أود أن أشير إلى أن هذا المرصد يخدم الشرائح الفاعلة في التعليم العالي وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر صانعي السياسات ومتخذي القرار في المستويات الحكومية العليا، ومديري الجامعات ومسؤولي مؤسسات التعليم العالي، المستثمرون في مجال التعليم العالي، الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة، هيئات التدريس في مؤسسات التعليم العالي حيث يوفر لهم جميعا البيانات والمعلومات الدقيقة والمحدثة حول أوضاع سوق التعليم العالي بشقيه العرض والطلب، وخصائص الخريجين من العملية التعليمية، والفرص المتاحة داخل سوق العمل، إضافة إلى التعرف على الاحتياجات المستقبلية.
هناك مهمة أعتقد أن مهام المرصد لا تشملها ولذا أتمنى أن يتوسع المرصد في مهامه لينهض بها وهي القيام بأعمال توثيق كل نشاطات الوزارة وجامعاتها وأعمالها وإنجازاتها بالصوت والصورة والوثائق بما في ذلك مراحل تخطيط وتطوير الجامعات وتوفير هيئاتها الدراسية والأجهزة والمعدات لتكون مرجعا لكل من يريد أن يطور جامعة في بلادنا حكومية كانت أو خاصة.
ختاما أتطلع إلى أن تنظم وزارة التعليم العالي ملتقى سنويا بعنوان ''تجارب حكومية ناجحة'' لعرض التجارب الحكومية الناجحة لتبادل الخبرات أولا ولتحفيز كل الأجهزة الحكومية للمنافسة حثيثا في حلبة سباق التجارب الناجحة، وكلي ثقة أن هناك تجارب حكومية كثيرة ناجحة ومبهرة لا نعلم عنها شيئا كما كنت لا أعلم عن مرصد التعليم العالي ومنتجاته شيئا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي