اثنان لا يجتمعان.. محاسب قانوني و مستشار مالي

دأبت الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين على وضع القواعد المهنية الملائمة لمهنة المحاسبة، ومن أهم هذه القواعد ما يتعلق بآداب وسلوك المهنة. وقد وجدت هيئة المحاسبين بعد بحث وتقص أن هناك تعارضاً في المصالح بين تقديم الاستشارات ومراجعة الحسابات لأي منشأة من قبل المحاسب القانوني نفسه وأن هذه الازدواجية تطعن في استقلالية المحاسب القانوني، لذلك شرعت هيئة المحاسبين لعمل كل ما يمكنها لضمان عدم ازدواجية تقديم الخدمات للعميل نفسه من قبل محاسب قانوني واحد، حتى أنها سنت الأنظمة لمعاقبة من يثبت عليه ذلك، بل وعاقبت بعض المحاسبين القانونيين فعلاً بسبب تجاوزهم النظام فيما يخص ازدواجية تقديم الخدمة، ولهيئة المحاسبين مبرراتها ومسبباتها التي نحترمها وإن اختلف معها البعض.
مع ذلك عندما بدأت شخصياً ممارسة مهنة الاستشارات المالية متفرغاً ابتداء من عام 2001 م من خلال مكتبي المرخص من قبل الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين، كان أول قرار اتخذته، إيقاف تقديم خدمات التدقيق تماماً، ولم يكن ذلك تفاعلاً مع تنظيم مهنة المحاسبة حيث لا يتعارض تقديمي الاستشارات المالية مع سلوك وآداب المهنة، ولكنه إيمانا بوجوب الفصل التام بين أن تكون محاسباً قانونياً وأن تكون مستشاراً مالياً، هذا الفصل لم يكن لضعف المعرفة والقدرة، وإنما تم من باب الاستقلالية والمهنية والتخصص.
وعند تأسيس هيئة سوق المال، وضعت هيئة السوق نصب عينيها عند الترخيص للمرخصين وفق أنظمة سوق المال، أن يكون هناك فصلاً كاملاً بين الخدمات المقدمة من قبل المرخصين إذا تم الترخيص لهم لأكثر من خدمة، وهو ما أسمته الهيئة سور الصين العظيم، بمعنى أن يضمن المرخص له أن خدمات إدارة الأصول مثلاً منفصلة تماماً عن خدمات الاستشارات وكذلك عن خدمات التعامل، بما يؤكد عدم استفادة كل خدمة من المعلومات المتوافرة لدى المرخص في تقديم خدماته للعملاء الآخرين !!!

هذا التطبيق ممكن نظرياً، أي على الورق وفي الأنظمة والسياسات والإجراءات الداخلية، أما على أرض الواقع فيحتاج إلى جهد أكبر وقد يستدعي ذلك الفصل المكاني على أرض الواقع ( مواقع مختلفة لكل خدمة ) وتعيين موظفين مستقلين لكل خدمة (حتى على مستوى السكرتارية والخدمات الإدارية) ويحتاج ذلك إلى فصل في الإشراف أيضاً. وقبل ذلك وبعده قد يتطلب هذا التطبيق نوعية من البشر ليسوا كالبشر وإنما هم أقرب إلى الملائكة لضمان التطبيق الفعلي والأخلاقي لسور الصين العظيم.

اليوم نحن أمام ممارسة أكثر خطورة، وازدواجية أكثر تعقيداً، لها آثار عاصفة على ممارسة مهنة الاستشارات المالية، وهي ممارسة أكثر تعارضاً مما يتصوره غير المتخصصين ولكن بالتأكيد يعرف أثرها أكثر المستثمرين. هذه الممارسة تمس عصب الاقتصاد السعودي في مرحلة من المتوقع أن تشهد ثورة في عمليات الاندماج والاستحواذ. هذه الممارسة تمس جانباً أكثر خطورة من المخاوف التي تحاول هيئة المحاسبين تجنبها أو تظن هيئة السوق المالية أنه بالإمكان السيطرة عليها!!!

لقد تم الترخيص أخيراً لعدد من المحاسبين القانونيين أو شركات المحاسبة الكبرى لتقديم خدمات الاستشارات المالية كمرخصين من قبل هيئة السوق المالية. الخطورة هنا ليست في الاستقلالية فقط أو تعارض المصالح فقط ولكن في المعلومات التي تمثل عصب السوق المالية دائماً، وتحرك السوق وتثير لعاب المستثمرين.
لنتأمل عندما يطلب أحد المستثمرين من قبل أحد المرخصين تقديم الرأي والمشورة في الاستثمار في الشركة الفلانية، وهذه الشركة الفلانية يدقق حساباتها المرخص نفسه بصفته شريكاً في مكتب التدقيق، أو لديه معلومات مستفيضة عن المنافسين بحكم مراجعته حساباتهم، أو على أقل تقدير لديه معلومات متكاملة عن تاريخ الشركة والشركات المنافسة وملاحظات الإدارة حولها لأنه كان مدققاً لحساباتها لأعوام سابقة حتى لو لم يكن مدققاً لها اليوم !!! وان لم يدققها هو فإن الذي قام بذلك شريكه في المكتب. ويكفي عن ذلك كله علمنا أن ملفات هذه الشركة ومستنداتها وجميع معلوماتها متاحة في مكتبه للإطلاع عليها، وبالتالي فإن المعلومات متاحة بكل تفاصيلها لأي شريك في المكتب، هل سيقوم المرخص المستشار المؤتمن على تقديم الاستشارة دون أي إطلاع على أي معلومة متاحة لديه أو في مكتبه؟ مع أن ذلك قد ينتج استشارة غير صحيحة! أم أن الوضع الطبيعي أن يعطي المستثمر استشارة كاملة تشمل ما يختص بمعرفته المعلومات التي لا يعرفها غيره !!!

إن ازدواجية عمل المرخص وممارسته كمحاسب قانوني إضافة إلى عمله كمرخص من قبل هيئة السوق المالية يعتبر خللاً كبيراً في آليات السوق، ويقدم نموذجاً صارخاً لضعف استقلالية المحاسب القانوني أولاً، ولتعارض مصالح المرخص له ثانياً، وعدم العدالة في الحصول على المعلومات من قبل المستثمرين ثالثاً، وعدم تساوي الفرص في اتخاذ القرار الاستثماري لدى المتعاملين في السوق رابعاً.
لو كنت مستثمراً وتنوي الحصول على استشارة مالية من أحد المرخصين في السوق، فأيهما ستختار، المرخص المستقل المهني، أم المرخص الذي لديه معلومات داخليه غير معلنة حول الشركة نفسها أو حول النشاط أو حول المنافسين بحكم ممارسته كمحاسب قانوني، أترك لكم الإجابة التي تعرفونها أكثر مني فالمستثمرون يبحثون عن مصالحهم وأهمها المعلومة وأن يكون المستشار قادراً على توظيفها وتقديمها بالشكل الذي يخدم مصالحهم !!!

في رأيي أنه يجب حظر ممارسة المرخصين في سوق المال لمهنة المحاسبة القانونية، والعكس صحيح بحيث يجب ربط رخصة الممارسة في سوق المال بعدم ممارسة مهنة المحاسبة. وعلى الهيئتين التأكد من عدم الازدواجية في الممارسة، وأن يكون هذا الشرط من المعايير الرئيسية للترخيص. وكما يجب أن يكون من المعايير الأساسية في الرقابة على المرخصين عند التحقق من المطابقة والالتزام بأنظمة الهيئة التأكد من عدم الازدواجية المهنية للمرخصين، وعلى المرخص اختيار إحدى المهنتين لممارستها.

أكتب هذا المقال في الطائرة قادماً إلى المملكة في رحلة دولية وبجانبي أحد الشركاء في أحد أكبر مكاتب المحاسبة القانونية العالمية، من الذين حصلوا أخيراً على رخصة هيئة سوق المال في المملكة . . ولما حدثته بموضوع مقالي محذراً إياه مازحاً معه. . إذا به يفاجئني بموافقته الرأي على أنه كمستشار سيستخدم المعلومات المتاحة له في تقديم استشارته لخدمة عميله، وإن كان ذلك محظوراً نظاماً ومستهجناً مهنياً وأخلاقيا !!

الكلمة الأخيرة.. أتركها للهيئتين المستقلتين لوضع النقاط على الحروف والتأكد من أن سور الصين العظيم بين المهنتين لا يزال قائماً.

<p><a href="mailto:[email protected]">falkassim@fincorpgroup.com</a></p>

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي