الطيران .. ويلي عليك وويلي منك
قيل الكثير عن النقل الجوي في بلادنا ومعضلته المأزومة منذ سنوات طوال، ومع كل الطروحات التي تبنت آراء في هذا الاتجاه أو ذاك من أجل حلحلة الوضع وتغيير الإدارات والسياسات والسماح للقطاع الخاص بالإسهام في تقديم هذه الخدمة ما زال الوضع حرجا يعاني انحباسا في ترجمة الرؤى إلى خطة عمل وآليات تنفيذ شافية.
إن عمر الخطوط السعودية يكاد يكون بعمر هذا الوطن، قدمت فيما سبق خدمة لافتة من حيث الانضباط في المواعيد ومن حيث الضيافة، غير أن جهازها ترهل وتكدس فيه الخلل هيكليا وتدنى في كفاءة الأداء وفي انخفاض جودة المخرجات، ولم يعد خافيا على كثير من مستهلكي خدماتها تردي دورها رغم كل ما وجهته الدولة لها من دعم سخي في ميزانيتها وفي البنية الأساسية وفي الخدمات المساندة لكن.. الأداء بدا وكأنه يسير في رمال متحركة تغطس فيه الخدمة كلما خطت خطوة.
وإذا أخذنا في عين الاعتبار المساحة الشاسعة للمملكة فإن هذا يفترض جدلا حاجتها إلى خدمات ميسورة متوافرة في النقل الجوي لتغطية مدن رئيسة في مناطقها الثلاث عشرة، خاصة في عدم وجود شبكة للقطارات تتولى هذه المهمة مع مهام اقتصادية حيوية أخرى منتظرة، وخاصة أيضا بوجود رغبة أكيدة للكثيرين لكي لا يضطروا لقيادة سياراتهم لمسافات طويلة في الطرق البرية مع ما يكتنف ذلك من مشقة ومخاطر.
غير أن واقع الحال يشير إلى أن الفزعة إلى فتح المجال أمام القطاع الخاص لتخفيف الضغط عن "السعودية" لم تؤتِ ثماره، فقد انسحبت شركة خاصة عن الخدمة وأخرى تواجه مصاعب وثالثة أحجمت، فيما لم يتم العمل بالسماء المفتوحة لكي تشارك في خدمة النقل الجوي شركات طيران أخرى من دول الأشقاء أو الأصدقاء، كما أن وضع الشركة الأم "السعودية" ما زال بين مطرقة اللوم وسندان العجز وانطبق على خدمات الطيران عندنا قول جدنا امرؤ القيس: ويلي عليك وويلي منك!!
هذا الانحباس في مجرى الحل يتطلب مواجهة عملية، لا يتم طبخها باجتهاد إداري هنا أو هناك في تفكير معزول يرى جانبا أو جوانب معينة من المشكلة ويغيب عنه رؤية سواها بل قد تكون هذه الرؤية المعزولة تعميقا للمعضلة وتعقيدا لها.. ولعل الوقت قد حان بشكل أكثر إلحاحا إلى أن يتم عقد ورشة عمل بين ممثلي خدمة النقل الجوي في القطاعين العام والخاص والخبراء في هذا المجال لوضع خريطة طريق عملية للكيفية التي ينبغي بها أن تخرج خدمة الطيران في بلادنا من متاهة التعثر وإدمان المسكنات أو الهرولة بها إلى غرقه الإنعاش؛ فخدمة الطيران قضية وطنية تمس حياة كل مواطن مثلما هي علاقة هوية على نجاعة الاستثمار من عدمه وليس من المعقول أن يستفحل العناء والارتباك في قطاع الطيران في وقت يستهدف فيه وطننا جذب الاستثمارات والمستثمرين إليه، ناهيك عن تعزيز حراك الاستثمار الوطني، خصوصا ونحن نتطلع إلى تحقيق تنافسية في عوائد الاستثمار وفي احتلال مكانة وسمعة فيه، وبالتأكيد مثل هذا العجز في تحقيق اختراق في صناعة النقل الجوي طوال هذه السنين مثبط للعزائم قامع لشهية المستثمر مثلما هو محيط مثير لتذمر المواطن والدفع به إلى القفز خلف مقود سيارته أو إلى حافلات النقل الجماعي بعللها، ما يشكل فوق المشقة والخطر خسارة في موارد كان بالإمكان أن تكون مكونا في الاستثمار للناقل الجوي نفسه.
إن ورشة عمل في هذه القضية قد تكون مخرجا لإنقاذ خدمات الطيران في بلادنا إذا ما ترجم الاتفاق فيها والتوافق إلى برنامج عمل فوري يلتزم به الجميع بعد ما يستكمل إجراءاته القانونية واللوجستية والمادية من قبل الدولة ممثلة بهيئة الطيران المدني تتضافر على تحقيقه (السعودية) والمسهمون في تقديم هذه الخدمة من القطاع الخاص أو الراغبون في الدخول إليها.
وحين أقول ورشة عمل فذاك لكي لا يتم التورط في عقد منتدى أو مؤتمر لهذه المهمة، فقد أسفرت معظم هذه الفعاليات عن أوراق على الرف أكل الغبار عليها وشرب، أما ورشة العمل فهي بمثابة مشروع خطة تشغيلية ملزمة لأعمال وليس لأقوال أو هكذا هو المفترض والمأمول!!