دفاعاً عن خفافيش الظلام!
<a href="mailto:[email protected]">Najeeb@sahara.com</a>
.. "خفافيش الظلام"، هذه السبة التي يُقصد بها التحقير، وتأكيد صفتـَيْ اللؤم والجبن، سائرة هذه الأيام، فصارت تتشدق بها فئة، وتثور ضدها فئات.. وهذا ظلم وجور، وأنا اليوم لست مع ذا ولا ذاك، فذا يستطيع عن نفسه أن ينافح، والآخر يقدر عن نواياه أن يدافع. ويبقى طرفٌ ثالث تدوسه خطواتُ الظلم. واليوم آخذ هذا الطرف لأمثله وأدافع عنه.. أدافع عن خفافيش الظلام، وبكل قوتي، وبكل إصرار.. مع أن "الطرف المعني" لم يضعني ممثلا، ولم ينتدبني، بل إن هذا الطرف حتى لا يستطيع. طرف خفافيش الظلام.
هناك تعديل في المنطق الفكري، وهو أن الخفافيش لا تعمل إلا في الظلام، والله خلق كل أجهزتها من أجل أن تعمل في الظلام، فليس منطقا ربط الخفافيش بالظلام، لأنه ببساطة ليس هناك خفافيش النور.. أو النهار. وهناك إشارة يجب أن أفصح عنها وهي تمويه لغوي نفسي لربط الخفاش بالظلام، لأن الظلام يعني الجانب الذي يتوجس منه البشر ويخافونه، ولأنه ضد الوضوح وضد الخير، فالإصرار على ربط الخفاش بصفة الظلام قذف متعمد بأنه كائن شرير.. والدليل على سوء المقصد المبيت أنه كان باستطاعتهم وصفها بخفافيش الليل.. ولكن لا، الليل رومانسي، ويحلو به السهر ومداعبة جدائل النور، ومراجيح القمر، المعلقة بين أزاهر النجوم.. لا، لا يمكن أن يُسمح للخفاش بهذا الوصف، فرُمي عليه الظلام.
وللخفاش اسم آخر، وهو الوطواط، ولكن الذين يستخدمون كلمة "الخفاش" لو كانوا يتصرفون بها تصرف المرادف من المعاني لما قامت لنا عليهم حجة، ولكنهم لا يستعملون كلمة وطواط أبدا، لأنها لا تشفي غليل نبرة الحقد والتجريم، فالخفاش به هذه الحروف المحرفشة التي تشعر بلهيب أجنحتها الوبرية على بشرتك المرتاعة. لذا اختفت كلمة وطواط الأكثر نعومة ومسالمة من قواميس شاتمي الخفافيش. إذن انتهينا هنا من إثبات السب والشتم والتحقير العلني للخفافيش، ومن له حجة فليقف، أو أن نواصل حيثيات دفاعنا، وإقامة منصة لقضيتنا العادلة، قضية الخفافيش.
والخفاش مظلوم من أجل شكله أولا، وهذه مهانة لا تـُقبل للأنواع الحية وتعالٍ على مخلوق في شكل وضعه اللهُ لهيئته. فشكله ليس بعيدا عن الفأر، ويزيد من حب بعض الناس في النفور منه أنه يطير، فأر ويطير! والحقيقة أنه ليس له صلة بالفئران، والفئران ضارة في المجتمع البشري أكيد، وطفيلية عليه في منزله، ومزرعته، وبحره وبره، أما الخفاش فهو ليس ضارا للإنسان وليس طفيليا أبدا، ويحرص أن يسكن بعيدا في كهوف أو مغاور، أي أن الإنسان هو الذي يذهب إليه. ولا نجد أن الخفافيش تتطفل علينا في بيوتنا، أو توزع أوساخهام وتنشر أمراضها في أكلنا وشربنا وبيوتنا وأجسادنا.. بل هي أرقى بكثير من الحشرات والقوارض، فأنثى الخفاش تلد وترضع وتحنو على أولادها .. حقاً. وكيف لمخلوق به هذه الصفات أن يُضم مع الحشرات والقوارض؟! إنه مصنف من عند العلماء من ذوات الأثداء ويختلف عن كل ذوات الأثداء بأنه يطير.. وأسأَلُ هنا: هل هذه وصمة عيب، أم صفة امتياز؟ سأترك لكم الإجابة بينما أواصل الحيثيات الأخرى للقضية.
وكنا نتكلم عن الأجنحة، فإن المتأمل في تشريحها يرى هندسة ربانية إعجازية، تخطيط مثل تخطيط المهندس الذي يريد أن يشرع في البناء، إن مخطط جناح الخفاش به ذراع مخفي بطـَّنه جلدُ الجناح وله مفاصل مرنة دقيقة ورهيفة وغاية في دقة العمل لتهيئ للجناح انبساطا عريضا ليأخذ كمية الهواء التي تحمل بقية البدن الخفاشي، والجناح يضم الرجلين أيضا ومبطنين مثل الذراعين وبذات الميكانيكية الدقيقة الفائقة الإعداد، وهي التي تفرش الجناح مثل مستعرض الطائرة الورقية ليستغل الهواء كدافع للانطلاق والاستواء أثناء الطيران.. وهناك ذيل خفي مبطن بين الجناحين ليضع اللمسة للاكتمال الهندسي للشكل البدني العام. وهذا دليل على سمو التكوين، وإعجاز التشريح الهندسي مما يجعل الخفاش معنونا عند علماء الحيوان بنفحة حاملة على سلم رقي الكائنات، فهم يطلقون عليه اسما لاتينيا محترما Chiroptera أي رتبة "اليد المجنحة"، وما أدراك من رتبة.
وليس عيبا على الإطلاق أن تعيش الخفافيش في الظلام، فأي خطيئة هنا هي ترتكب؟ هل تسطو على البيوت بالظلام، هل تنهش لحمنا بالظلام؟ لا، أبدا. هي تنام بالنهار، وتصحو بالليل لجهاز حيوي أُودع بها من قدرة الله، ثم إنها على عكس ما نظن فهي تنظف عالمنا (بينما نحن نتفنن في تلويثه) وذلك لأنها تتصيد الحشرات والهوام، ولا يتسنى لها ذلك إلا بالليل حيث الحشرات غافية ولا ترى، وحيث الخفاش في ذروة نشاطه، ويرى.. قلتُ يرى؟ له الحق أن يوقفني محامي الخصم هنا ليصحح لي، ولكني لم أنتهِ بعد، فالخفاش يرى مثبتا ـ وهنا برأتُ ساحتي أمام المحكمة - ولكنها رؤية كليلة لا تتعدى مسافة سنتمترات، وتأتي معجزة مهمة من معجزات الخالق المدخرة بالخفاش والتي بفضلها تغير العالم من حال إلى حال، وانتقل، حرفيا، من عصر إلى عصر. الرادار!
.. إن للخفاش سرعة رهيبة وهو يطير، حتى قيل إن من الصعب متابعته بالعين المجردة، فهو يمر خاطفا المسافة خطفا، كل هذا بالظلام السادر الثقيل وفي الكهوف والمغاور والأطلال حيث العوائق التي تنبت في كل لحظات الطريق.. فاحتاج إذن قوة أكبر وأدق وأسرع من البصر.. أول ما تعجب الإنسان من هذه الملاحظة بدأت رحلة تعذيب الخفافيش لاكتشاف سرها الأكبر.. فأخذوا بعضها وحبسوه في غرفة بها أخشاب متعامدة ومتصالبة وطارت من خلالها الوطاويط بدون أن تلمس أجنحتها حتى غبار الخشب.. وكذلك غمموا عيونها، ووضعوا عليها الشرائط اللاصقة وكل مرة تهتدي لمبتغاها.. كل مرة. هل هذا الخفاش الذي يتلمس طريقة مهما وُضِعتْ أمامه العقباتُ كائنا يُسبّ ويُشتم.. أم نقف أمامه ونقول: سبحان الله؟
ثم إن الخفاش يمص دم الإنسان؟! هه، خرافة أخرى. أمهر مخلوق يمص دم الإنسان على كل الأرض هو .. الإنسان!
إلى ممتهني السباب، روحوا رجاء وسبوا.. ولكن بعيدا عن الخفافيش.