Author

معوقات النفوذ الإيراني في العراق

|
منذ عصور الأكاسرة والإمبراطورية الفارسية وإلى وقتنا هذا، تعتبر إيران أن العراق ساحتها الخلفية، وأن من حقها أن تحتويه وتهيمن عليه دينياً وعقائدياً واقتصادياً وسياسياً. وباستثناء سنوات الحرب ضد صدام حسين كانت العلاقات بين إيران والعراق علاقات قوية على المستوى الفعلي خاصة على الساحة الاقتصادية، حيث تجارة الحدود الرائجة والوجود الكثيف للتجار الإيرانيين. ومع التطورات الساخنة التي ألمت بالعراق بسبب الغزو الأمريكي له، تغير وجه العراق بدرجة كبيرة، فقد قضى الأمريكيون على صدام حسين وحزب البعث، وأعادوا رسم الخريطة السياسية بتجهيز كل شيء للسيطرة الشيعية والتراجع السني والاستقلال الكردي. كان من جراء صعود الشيعة وهيمنتهم على مقدرات الأمور أن أصبح واضحاً للعيان التقارب الإيراني - العراقي، حيث إن إيران تعتبر نفسها زعيمة للشيعة ومرجعيتها الأولى، ورغم ذلك لم يصبح العراق ولاية تابعة لإيران، بل إن هناك أمرين يحولان دون الهيمنة الإيرانية وهما: أولاً: تذبذب الزعماء العراقيين من الشيعة في التعامل مع إيران. ثانياً: دخول تركيا إلى الساحة العراقية بقوة وإصرار على تحقيق رخائها الاقتصادي من العراق. وعلى ضوء الانسحاب الأمريكي الوشيك وحالة الاضطراب السياسي وعودة العنف الطائفي وتأثيرات ما يسمى بالربيع العربي، فإن العراق يستحق منا بعض الاهتمام اقتصادياً وسياسياً. وهنا لا يمكن لعاقل أن ينكر أو يتجاهل الانتشار الكثيف للإيرانيين في العراق أو الجهود التي تبذلها طهران لاستعادة دورها كقوة مؤثرة في السياسية العراقية، خاصة بعدما ذهب العنان إلى الشيعة. ويتنبأ المحللون بأن هناك احتمال حدوث فراغ سياسي بعد الاحتلال مع تصاعد الصراع الطائفي، أو أن تنجح طهران في فرض هيمنتها على المؤسسات العسكرية والاقتصادية ومن ثم على العراق بأكمله. ويجمع الخبراء على أن إيران غارقة لأذنيها في السياسة العراقية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وتتمتع بالعديد من المزايا التي تمنحها التفوق في هذه القطاعات. وهذا أمر لا شك فيه لأن إيران تمد أيديها بقوة لتطوير مصالحها من خلال النفاذ الاقتصادي القوي واحتواء الجماعات السياسية والأحزاب سواء كانت شيعية أو سنية أو غير ذلك، وتعمق الروابط الدينية والثقافية بقوة واضحة، والجميع يعرفون قوة الرابطة الشيعية التي تجعل أي خلافات بين أفرادها هامشية لا تمس الجوهر. ولكن إيران تشعر بقلق شديد وأرق دائم يزعجها ويعقد خططها للهيمنة. أول أسباب هذا القلق هو الخلافات والفرقة الشديدة بين الفرق والجماعات الشيعية والصراع العنيف بين الجماعات التي تعتبر نفسها نخبة الشيعة والحامية لمصالحها، لذلك تفاوتت السياسات الشيعية تجاه إيران بين أمرين: الأول: هو تحدي إيران وإقناعها بأن العراق دولة ذات سيادة، بل هي ند كامل لإيران. والثاني: هو التعاون الوثيق مع الملالي حماية للشيعة في مواجهة التحديات العديدة التي تزحف وتتعاظم يوماً بعد يوم وعلى رأسها التحدي الإسرائيلي والأمريكي والوجود التركي والرفض العربي في بعض الدول. وغاية ما يقلق طهران أن أنقرة قد أعدت العدة للاستقرار الاقتصادي في العراق بسبب النمو الاقتصادي التركي المبهر وتعد تركيا - كما يعلن مسؤولوها - بإعادة بناء البنية الاقتصادية والبنية التحتية للعراق. ومنذ سنة 2003 حرص زعماء الشيعة العراقيون على تبني مواقف مستقلة عن توجيهات طهران مع التأكيد الدائم على أنهم ليسوا رهائن لدى إيران، وربما كان الاحتلال خاصة في سنواته الأولى هو الذي أملى هذه السياسة لإبعاد إيران عن المسرح العراقي، ولكن هذه التجربة شجعت الشيعة العراقيين على تقييم علاقاتهم بإيران حسب ظروفهم السياسية الداخلية والضوابط الواقعية. كما أن شعور العراقيين بالحاجة إلى زعماء سياسيين وقبليين وعسكريين لحماية بلادهم قد أنتج نموذجاً لا يتوافق مع الانتهازية المحسوبة أو تكتيكات البقاء. فعلى سبيل المثال، مع أن قبائل الجنوب الشيعية عرفت بأنها شديدة العداء لإيران، ويعتبرهم الجميع تجسيداً للوطنية العراقية، فإنه في غياب الفرص الاقتصادية شارك كثيرون من هؤلاء في عملية التهريب عبر الحدود مع إيران ويقول المراقبون إن قلة الموارد والوظائف كانت سبباً في تغذية التوجه إلى النقيض، فمثلاً اضطر الشيعة للتعاون مع القاعدة في هجمات شنها الشيعة ضد بني عقيدتهم من الشيعة مقابل الحصول على عائد مالي. وعلى المستوى السياسي يجسد سلوك نور المالكي رئيس وزراء العراق والزعيم مقتدى الصدر توجهاً عملياً، وذلك بحسن التعامل مع إيران، بل الاعتماد عليها حتى تدعم العراق، مع عدم استبعاد إظهار التحدي إذا لزم الأمر. وتحت مظلة التعاون أعلن المالكي من يومين أنه بحث مع نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي جميع المشكلات العالقة بين إيران والعراق وبذلك تم الاتفاق بينهما على حل قضايا الحدود والمياه، وتم تأسيس مجلس التعاون العراقي - الإيراني للمساهمة في تطوير التجارة بين البلدين، وتم التوقيع على خمس اتفاقيات في مجالات الصحة والتعليم والاتصالات والمالية والثقافة، كما تمت مناقشة موضوعات الكهرباء والنقل والإعمار والغاز والعلوم والتكنولوجيا والاتصالات، وقد أشار رحيمي إلى القصر الجمهوري ببغداد، وقال: كان هذا القصر غرفة حرب زمن صدام والآن أصبح تجمع سلام. وقد علق البعض على زيادة رحيمي والتطور في العلاقات بين المالكي ورحيمي وقالوا إن ذلك يعني سيطرة إيران على الزعماء العراقيين، إلا أنه مع التسليم ببراعة إيران في المناورة، فإن العلاقات تمثل شارعاً ذا اتجاهين يستفيد منه الطرفان. كان من أبرز نقاط الخلاف بين العراق وإيران هو غضب إيران من رفض ''ولاية الفقيه'' التي قدمها آية الله الخوميني، ولكن المالكي نجح في استعادة العلاقة من خلال إعلان نفسه كزعيم وطني عراقي وكزعيم لكتلة دولة القانون بدلاً من خضوعه للقائمة الشيعية التي تدعمها إيران. لقد أدرك المالكي أن العراقيين لن يقبلوا نظاماً خاضعاً لإيران، ومع ذلك قبل المالكي عرض إيران المشاركة في مفاوضات بناء الائتلاف. ويتعرض المالكي الآن لحالة من السخط الشعبي بسبب حالة الشلل السياسي واستمرار الاحتلال الأمريكي، مما دفع العراق نحو سفح التل، والأدهى من ذلك تعرض شعبيته داخل حزبه إلى التهاوي وتعرضه للنقد من آية الله السيستاني الزعيم الديني الذي يرفض التعامل في السياسة. وإذا كان المالكي قد فتح صفحة إيجابية مع إيران، فإن مقتدى الصدر هاجم إيران لتدخلها في الشأن العراقي، ورغم أن جيش الصدر ''جيش المهدي'' يتلقى الدعم من إيران مالياً وتدريبياً، فإن الصدر لم يتراجع عن هجومه وأصر على ضرورة استقلال العراق تماماً، ورغم وقوف الصدر إلى جانب إيران أثناء صراعه مع المالكي للسيطرة على البصرة، إلا أنه يصر على الظهور في صورة المقاتل العراقي. وقد هاجم مؤخراً إيران مردداً أن مصالح العراق هي ما يهمه، وأنه لم يسمح لأي بلد ممارسة لعب سياسية على العراقيين. ولعل من أهم الشخصيات التي ينبغي التوقف أمامها لدى الحديث عن العلاقات الإيرانية - العراقية هي شخصية آية الله السيستاني، فقد حرص دائماً على أن يكون فوق الدولة وأعلى من السياسة، وهو الذي يبث ليل نهار فكرة ''العراق أولاً''، وقام بدور كبير في توحيد العراقيين، وأصر على الديموقراطية في السعي لتحديد المصير؛ وحرص دائماً على أبعاد النفوذ الإيراني، وربما كان هو الزعيم الوحيد الذي لا تتذبذب مواقفه أمام إيران. وننتقل إلى الرياح التي تهب من شمال العراق وبالتحديد من تركيا، فقد لفت الأنظار النمو السريع لتركيا اقتصادياً في العراق، ولم تخف تطلعاتها لكي تلعب دوراً مؤثراً في دعم العراق خاصة لبناء بنيته التحتية وإعماره، وهو موقف يزعج إيران ويوقف تدفقها للسيطرة الاقتصادية على جارتها الغنية. وقد زادت أنقرة حجم تبادلها التجاري مع العراق بنسبة 70 في المائة، وهو ما يضع تركيا تحت إيران بنسبة ضئيلة للغاية. وقد بدأت تركيا تغلغلها بالشمال الكردي ثم انتقلت إلى أقاليم العراق كافة، ولوحظ أن بضائعها تتفوق على مثيلتها الإيرانية. وقد افتتحت تركيا قنصلية في البصرة، وهي المركز الأكبر للتجارة بين إيران والعراق. وقد انطلق الأتراك بنشاط في قطاعات الإعمار والنفط والغاز والكهرباء والإسكان والمطارات والملاعب الرياضية والمراكز التجارية وبعد زيارة رجب طيب أردوغان إلى العراق ظهر جليا نية تركيا في التغلغل المنظم، لأن الرئيس رافقه أكثر من 100 من رجال الأعمال. ويجمع الخبراء على أن الدور التركي في العراق سيتعاظم ويتنافس بضراوة مع إيران، ويبقى للساسة العراقيين اختيار الأفضل لهم ولتحقيق مصالح بلادهم.
إنشرها