عمارة الكدش

لم تكن العمارة بمعزل عن التغييرات التي انفتح عليها العالم اليوم، ولقد أتاح لنا عصر المعرفة وسائل اتصال متعددة وغاية في الدقة والسرعة، فالإنترنت والجوال وبرمجيات الحاسب الآلي أتاحت للمرء مجالا رحبا في التنقل هنا وهناك، وأصبح الواحد منا يسير مع البرمجيات الأبعاد الثلاثية في المكان ويلتفت يمنة ويسرة ليشاهد العمران في خيال إبداعي لا محدود من تلك البرامج، ومع ما يحصل عليه من صور يتاح له أن يعدل فيها ويبتكر ويبدع، واستطاع أيضا أن ينتقل وينقل ويشاهد كل عمران في العالم بسرعة هائلة صوتا وصورة وأبعادا للفراغ والأشكال، وأصبح بمقدوره تخزين ملفات كبيرة من ذلك بعد أن يقتبس أي عنصر من العناصر التي يضيف إليها ويعدل ويبتكر في طرق لم تكن موجودة أصلا.
ولقد شاهدت أحد عمال البناء وقد احتوى الجوال الذي يحمله على صور متعددة لأشكال الدرج وهو يعرضها على صاحب العمل كي يختار منها ليصنعها له في بيته، دون اعتبار لمعايير التصميم التي لا بد أن تتكامل بشكل أو بآخر مع كل العناصر العمرانية يمكن لها أن تدرس بشكل متأن لتنتج عمارة إبداعية، وقد كان ذلك الاتصال في غاية في الصعوبة بالأمس القريب.
إن ما يدرسه طلاب العمارة من أسس ونظريات وترتيب ذلك بشكل منطقي يجعل من المعماري ذا إبداع متناسق ويستطيع بعد توجيه أساتذته أن يتذوق العمارة بكل أشكالها وأنماطها ويدرك أهمية المكان والزمان في بعد العمارة، فإذا نظرنا إلى العمارة بشكلها الحضاري فإنها نتاج تجارب وقيم ومواد تشكلت في مكان معين وبعدة أشكال لتمنح المكان عمرانا لا ينسى أو يمحى أبد الدهر، وانظر إلى قرطبة وما حواه الجامع، وإلى قصر الحمراء في غرناطة تنطق بذلك العمران الجميل لذلك التلاحم للتجارب والقيم والمواد التي خلدته في ذلك المكان.
والعمران أشبه ما يكون باللباس في معان كثيرة، لذا فإن العمران الذي نسكنه ونعيش فيه أكثر من ثلثي أعمارنا هو ما يمكن القول إنه الغطاء الثالث للإنسان، حيث الغطاء الأول الذي يلازمه طوال حياته وتتكيف معه بإبداع الخالق - جل وعلا - الجلد. والثاني هو اللباس، وإذا نظرنا إلى اللباس فإنه تشكل أيضا من خلال مواد وقيم وتجارب حتى أصبح بهذا الشكل المتعارف عليه، لذا كان من المستهجن أن تشاهد من يأخذ الأنماط بشكلها المقزز ويقتبسها ويلبسها بيننا في مظاهر غريبة تشاهد هنا وهناك. ومثل ذلك قصات الشعر التي هي بالنمط نفسه تؤخذ بأشكالها ويغيب معها الوعي المكاني الحضاري في النقل بأن المكان الذي نقلت منه يختلف تماما مع المكان الذي نقلت إليه.
وفي لمحة عابرة تشاهد في بعض الأحياء اليوم منازل وهي أشبه ما تكون بقصات الشعر منظرا، حيث يمكن لنا أن نسميها عمارة الكدش، ولربما فتح صاحب ذلك المنزل الإنترنت وبالباحث العجيب ''جوجل'' أخذ يشاهد أنماطا عجيبة من الصور، ولعل إلى جانبه طابعة ملونة وبدأ يطبع كل ما شاهد عنصرا معماريا عجيبا هو يشكل ذلك الخليط الكدشي العجيب، فربما أصبح البناء يشبه مطعما هنديا أو عمارة منغولية أو أي شيء لا يصدق، ثم يذهب إلى حيث توجد تلك مكاتب عمارة الكدش حيث القص واللصق التي تتكاثر في معظمها بجانب البلديات، ويحمل المطبوعات لديهم وتختم بختم المكتب ومن ثم يبنى ذلك العمران الذي نشاهده اليوم.
والمشكلة الكبيرة هي أن عمارة الكدش ليست شعرا يقص، لكنها خرسانة صخرية، وهي كما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فما عسى المعماريين إلا أن يتجرعوا الصبر من تلك المشاهدات وتلك المناظر التي هي بلا شك تؤذي العين وتتسبب في تدني الحس والتذوق العمراني لمشاهدها، ومع مرور الزمن تصبح عمارة الكدش نمطا سائدا في عمراننا المحلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي