رقصة في البرلمان!

كان مشهدا عجيبا ومثيرا..
نواب في البرلمان الإيراني يجتمعون في وسط البرلمان، يتراقصون ويرفعون الأيدي وكأنهم في مظاهرة في الشارع. هذا المشهد كان قبل أسابيع، وفي الوهلة الأولى كنت أظن أنهم مجموعة من المتظاهرين من بسطاء الناس، لكن اتضح أنهم النواب ذاتهم، وبماذا يطالبون؟
كانوا مع الأسف الشديد يطالبون بـ (إعدام الخونة)!
مَن يكون هؤلاء الخونة؟ إنهم إخوانهم في العقيدة وفي الكفاح، إنهم يطالبون بإعدام قادة المعارضة مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، وبماذا يطالب هؤلاء المعارضون؟
لقد شاهد العالم قادة المعارضة يطالبون بالإصلاح السياسي والاجتماعي، طلبوا ذلك بشكل سلمي، وانتهى بهم المطاف إلى السجن!
المؤسف في المشهد الإيراني منذ إسقاط حكومة الإصلاحيين هو الإقصاء والتضييق على أبرز قادة إيران الذين يحترمهم العالم ويقدرهم ومنهم رفسنجاني وخاتمي.
إنه مشهد مؤسف بحقنا كمسلمين، عودة إلى الوراء، نكوص إلى الطائفية والتجزئة، والعالم يتسابق إلى العلم والتصالح والسلام وتحقيق العدالة الاجتماعية!
هذا المشهد في البرلمان الإيراني يكشف عن تردي الوضع السياسي الإيراني، ويؤكد أن إيران تتجه إلى نسف المكتسبات التي حققتها قبل مجيء المتطرفين الإيرانيين إلى السلطة، فالمناخ الدكتاتوري أعاد إيران إلى ذروة المد الثوري بعد مجيء الخميني الذي تبنى تصدير الثورة، وكان ذلك لأجل حشد الشارع خلف مجهود الحرب مع العراق. إيران تعود الآن إلى تلك الأجواء فقد أطلقت كل ماكينتها السياسية والإعلامية والمالية لتحريك الفتن الطائفية في المنطقة، وهذا التصعيد مكشوف، إذ هدفه حشد الجبهة الداخلية ضد المعارضة المسجونة والمقموعة!
إيران في وضع داخلي صعب، فبعد أن مضت في قمع من لا يقعون تحت المظلة الطائفية الصفوية والقومية الفارسية، بالذات السنة وهؤلاء عددهم لا يقل عن 25 مليون نسمة، أو حتى الشيعة العرب ممن لحقهم نصيبهم من القتل والتشريد والاضطهاد، فبعد هذا الموروث من قمع هؤلاء.. الآن يضاف لهم الجيل الجديد من الإيرانيين الإصلاحيين الذين يرون قوة إيران في التأثير الإيجابي الحضاري مع جيرانها ومع العالم.
ماذا حدث لإيران لتعود إلى هذه الأجواء المأزومة التي تهيئ الفرصة لثورة الجيل الجديد؟
جيل الشباب في إيران يتطلع لأن يرى بلاده تصدر العلوم والتكنولوجيا، تصدر صناعة الخدمات، تصدر السيارات، وتصدر السجاد الفاخر، تصدر معطيات الثقافة والفن والأدب.. لا تصدر الثورة، وآلياتها من الخلايا النائمة، والأسلحة، والإعلام المشحون بكل ما يثير الفتن ويوقظ الضغائن. الجيل الإيراني الجديد وقياداته يؤمنون بأن لدى إيران الكثير مما تقدمه لجيرانها وللعالم.
في منتصف عام 2005 كنت مع عدد من الزملاء في زيارة لإيران في فترة الرئيس محمد خاتمي، وكانت إيران في ذروة تعاونها الإقليمي وانفتاحها وطفرتها الاقتصادية.. وكان في برنامج الزيارة مقابلة الرئيس خاتمي، وهو نموذج لرجال الدولة الكلاسيكيين الذين يجمعون الرؤية السياسية مع الخلفية العلمية والأدبية وحسن الأدب والخلق، ومما أذكره من ذلك اللقاء استفاضته في الحديث عن حوار الحضارات الذي دعا له في الأمم المتحدة عام 1998 ويقوم تصوره على ضرورة تعاون العالم على نبذ التعصب والتشرذم واللجوء إلى الحوار والنقاش السلمي، وهو المشروع الذي اعتبره أحمدي نجاد من المحرمات السياسية.
وفي هذا السياق تحدث خاتمي عن الملك عبد الله وأبدى إعجابه به كزعيم لديه رؤية للعالم، وأذكر أنه في آخر اللقاء الذي دام لساعة ذكر أن لديه مشروعا يتطلع إليه، وهو إنشاء مركز عالمي للحوار بين الحضارات، وقال إنه بعد انتهاء فترة رئاسته سوف يزور الملك عبد الله للبحث في إطلاق هذا المشروع. ألا يدعو للأسف أن ينتهي هذا الزعيم الإيراني الكبير إلى الوضع الذي هو فيه الآن، فكل ما أراده هو أن تستثمر إيران في مواطن قوتها في العالم الإسلامي، أرادها دولة تتجاوز التاريخ إلى المستقبل، تتجه إلى المصير المشترك للشعوب الإسلامية، إلى تحقيق المبادئ العظيمة التي جاء بها الرسول محمد ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ وعمل بها صحابته من بعده، خاتمي كانت له رؤيته بأن تكون إيران جزءا من الحل، جزءا من المستقبل، وجزءا مساهما في الحضارة الإنسانية. هذا الزعيم الذي حصل على 22 مليون صوت في فترته الثانية من مجموع 28 مليونا.. هذا الانتصار الساحق لم يشفع له.. أين هو الآن؟
وحتى الزعيم الكبير رفسنجاني عندما قابلناه في إطار الزيارة كانت له رؤيته التي تتفق مع خاتمي حول دور إيران في العالم الإسلامي، وعندما أثرنا معه ما يطرح حول الهلال الشيعي.. كان أكثر واقعية في شرح الموضوع، فذكر أن إيران تقع داخل (القمر السني)، ومما فهمته أن لديه إدراكا واقعيا للظروف التاريخية، وإدراكا للاعتبارات الجغرافية السياسية لهذه الإشكالية، ومما استنتجته حينئذ أنه مدرك لخطورة المضي بهذا المشروع أو حتى توقعه والعمل عليه، وأنا لا أستغرب أن رفسنجاني بما عرف عنه من حنكة سياسية ودراية كبيرة بشؤون المنطقة والظروف الدولية، وأيضا بما عرف عنه من واقعية سياسية يؤمن بأن الإخلال بمعادلات الصراع والإخلال بموازين القوى لن يكون في مصلحة إيران، لذا كانت إيران تمضي بقوة لتتكامل مع (القمر السني)، لا أن تكون أداة لتفجير الصراع داخل المحيط الكبير.. فالمحيط عندما تهتز قاعدته قد يكون هناك الـ (تسونامي) الذي قد يضرب في كل الاتجاهات، والمنتصر مهزوم!
وسباق إيران للتكامل إبان تلك الفترة المنتجة للحياة في إيران يلمسه الزائر في كل مواطن الإنتاج وصناعة القرار التجاري والاقتصادي، وفي وزارة التجارة الإيرانية عند اللقاء مع الوزير قال إن إيران في سباق مع الزمن لكي تعكس ميزانها التجاري مع دول الخليج جميعا، وكان يرى أن هذا تنافس إيجابي واستثمار للمناخ السياسي الإيجابي الذي يتبناه الملك عبد الله منذ أن كان وليا للعهد وحينئذ كان الإيرانيون مدركين لأهمية هذا الجانب، فالتحول في الميزان التجاري وارتفاع التبادلات التجارية في العرف السياسي الاقتصادي هو ثمرة للعلاقات الدبلوماسية المتميزة، وهو الذي يقرب الشعوب ويجعل مصالحها مشتركة ويؤسس للشراكات الاستراتيجية التي لا تؤثر فيها الأزمات الطارئة.. أي تجعل العلاقات تحتكم للعقلانية بعيدا عن ردود الأفعال التي تشوه العلاقات بين الشعوب، وتجعلها أسيرة للرؤية السياسية الضيقة للموظفين التكنوقراطيين المؤدلجين الذين يعيشون ويتنفسون في أجواء الخلافات والصراعات.
القيادة السياسية المستنيرة في إيران في فترة خاتمي الأولى والثانية كانت تأخذ إيران إلى ما يجب أن تكون عليه.. دولة محورية لها تأثيرها الإيجابي في الأمن والسلام الإقليمي والدولي، هذه القيادة (معتقلة ومخنوقة ومضيق) عليها، ويبدو أن هذا قدر خاتمي ففي نهاية فترته كانت لديه كل أسبوع أزمة.. إنها أزمة لإيران، إن هذا مؤسف بحق إيران وبحق الأغلبية من شعبها العظيم المختطف لأجل طموحات ونزوات أيديولوجية، ورحم الله الإمام علي ــــ رضي الله عنه ـــ الذي قال (إنما يعرف الرجال بالحق.. ولا يعرف الحق بالرجال)، ومن هم في السلطة الآن لا يعرفون إلا بالباطل الذي ينساقون إليه، أما الذين في المعارضة فنحن نعرف الحق الذي هم عليه.
وكما ورد: (جولة الباطل ساعة.. وجولة الحق إلى قيام الساعة).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي