دعوة لرجالات الدولة

أعتقد أن المرحلة القادمة والضرورية هي الانتقال إلى جبهة لا تقل عن أهمية توفير الموارد المالية، إنها جبهة التنظيمات وتطوير آليات الأداء الحكومي، فالدولة الآن وفي خطوة تاريخية وغير مسبوقة للإنفاق الحكومي وفرت من الموارد ما قد (يحرج) أي مسؤول حكومي، أو حتى مسؤول في القطاع الخاص.
هذه الخطوة القادمة والمتوقعة لتجديد ذهنية وحيوية القطاع العام، ليكون مواكباً في مواجهة التحديات الجديدة للمجتمع السعودي، ويكون أيضاً مدركاً لطبيعة الظروف الدولية والإقليمية .. هذه الخطوة تحتاج إلى مبادرة رجالات الدولة الذين خدموا في فترات سابقة شهدت انتقال المجتمع السعودي بين مراحل التنمية، وعاصروا حالات الازدهار والرواج في الاقتصاد السعودي .. هؤلاء سواء من قيادات القطاع العام أو الخاص، دورهم الآن مهم وحيوي، فقد كانوا جزءا من مسيرة البناء.
ما يهمنا هنا هو التنظيمات والقرارات التي تستهدف مواجهة التحديات القائمة في العمل والتعليم وتطوير المرافق العامة، مثل النقل والخدمات البلدية وغيرها، والهدف من ذلك هو التعرف على مصادر (القلق والتذمر الاجتماعي)، وقد نكتشف أن الناس تشتكي وتتذمر من مشاكل حلها ربما متيسر وغير مكلف .. كل الذي يتطلبه الحل هو تعديل مادة في نظام أو إضافة مادة أو إيجاد لائحة تنفيذية، وهكذا..
أيضاً ما يهمنا في ثورة التنظيم القادمة ما يتعلق بأهمية تحديد مصادر الهدر للثروة الوطنية، بالذات الهدر الناتج عن عدم كفاءة التشغيل والإدارة، أو قد يكون ناتجا عن تعطل إجراء، أو تأخر صرف اعتماد، أو تعطل مرفق للتشغيل والصيانة.
مصادر الهدر لدينا مخيفة، في التعليم تصل إلى 23 مليار ريال، في قطاع المياه والكهرباء عشرات الآلاف من الملايين، في جمع النفايات وإتلافها مئات الملايين .. وهناك العديد من المصادر التي تجعلنا نتفوق في أي سباق لإهدار الموارد، بل لدينا (فن إهدار الموارد!).
الذين خدموا لفترات طويلة في القطاعين العام والخاص لا أجزم أنهم معزولون تماما، فهناك منهم من يبادر ويساهم في الرأي والمشورة، سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر القنوات الرسمية أو الخاصة، لكن هؤلاء قلة. ما يهم هو قطاع كبير الآن لديهم الوقت، ولديهم الرغبة لخدمة بلادهم، ولديهم مستودع التجربة. نحن هنا لا نقصد إعادتهم إلى العمل، نقصد استثمار المخزون المعرفي لديهم في المجالات والقطاعات التي خدموا فيها.
المعروف أن الأشخاص عندما يبتعدون عن نطاق أعمالهم، وينسحبون إلى ذواتهم، في فترات الهدوء والصفاء تكون الفرصة للتأمل والتدبر والمراجعة لمسيرة النجاحات والإخفاقات، وهنا الفرصة لاستثمار التراكم المعرفي. في الدول المتقدمة ينشئون مراكز الأبحاث والدراسات لأجل دمج الأجيال والذهنيات والتجارب، لذا تتحول هذه المراكز إلى مراجع فكرية تكون منبع التأثير القوي في صناعة السياسات العامة، ومصدرا مهما للتأثير في الرأي العام وتوجيهه.
وبما أننا في مرحلة مهمة لتفاعل الدولة مع الرأي العام .. ربما يكون الرجوع إلى من خدموا الدولة مهما وضروريا بالذات حين الرغبة لمراجعة الأنظمة القائمة وآليات تنفيذها (إذا وجدت!!)، فنحن نحتاج إلى مراجعة أنظمة الاستثمارات المحلية أو نظام الاستثمار الأجنبي، نحتاج إلى مراجعة طرق وآليات منح التراخيص للمنشآت الصغيرة، نحتاج إلى الأنظمة التي تحكم نشاط الأمانات والبلديات، لدينا الكثير، والمدخل الموضوعي إلى هذه المراجعة هو عبر إعطاء الأولوية للأنظمة أو القرارات التي يترتب على تطويرها أو تعديلها أو إيجادها القضاء على مصادر التذمر الاجتماعي، لأجل تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي