مكافحة فساد .. كائنا من كان

تشكل الإصلاحات هاجسا لكل أفراد الشعب، بمختلف أطيافهم وفئاتهم ومشاربهم، ومنذ اليوم الأول لاعتلائه العرش، أكد الملك عبد الله بن عبد العزيز تحريه احتياجات الناس في السعودية، وما فتئ يؤكد ذلك بين وقت وآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال القنوات التنظيمية المتعددة.
وجاء الخطاب الملكي أمس الأول ليجدد ثوابت الحكم في السعودية القائم على ميزان العدل وتأكيد حقوق الناس، وفق أعراف المجتمع التي ما انفك يستعصي على عديد من الجهات خارج الحدود ـــ أو يكاد ـــ فهمها. لك أن تتصور أن كلمة حقوق الإنسان حتى وقت قريب تعنى لدى شريحة عريضة من المجتمع أمورا أدناها الخروج عن جادة الشرع الحنيف.
بعد سنوات من إطلاق الاستراتيجية العامة لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، يجيء القرار الملكي بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لترتبط بالملك مباشرة، وهو ما يمنحها الديناميكية والقوة اللازمتين للتحرك تجاه إصلاح ما يمكن أن يؤدي إلى خلل في حماية المال العام، ومكافحة الفساد بنوعيه الرئيسين الإداري والمالي. وما يعزز من ثقل القرار كونه ينضوي تحت مظلة الهيئة المستحدثة كافة القطاعات الحكومية، أما التأكيد بأنه ''لا يستثني من ذلك كائنٌ من كان'' فيعد إشارة صريحة بعزم متخذ القرار الوقوف على مواضع الخلل ومعالجته، وتدعيم العمل المؤسسي في الدولة، لما لذلك من آثار إيجابية كبيرة على الحراك المحلي بمجالاته المتنوعة، وخصوصا الاقتصادية منه.
إن من الأهمية بمكان اطمئنان رب المال إلى الأرضية التي تشكل الوعاء لاستثماراته، بغض النظر عن القطاع، ناهيك عن أن من شأن القرار تحفيز استقطاب الرساميل الأجنبية للمشاركة في المشاريع في المملكة، وإذا كانت شريحة مهمة من الشركات والمؤسسات الأجنبية تتردد سابقا في الاستثمار هنا، فإنها ـــ في رأيي ـــ ستتخذ اتجاها إيجابيا للغاية في ظل وجود هيئة معنية بمكافحة الفساد، وهو الأمر الذي يعد السبب الرئيس في تقدم الشركات العالمية خصوصا تجاه المشاريع في بلدان العالم الثالث على وجه الدقة.
يعتقد كثيرين أن الشعب هنا ـــ في السعودية ـــ عندما يعبرون عن احتياجاتهم، وطموحاتهم لتلبية حاجاتهم ومتطلبات التنمية في الوطن، يريدون أطباقا إصلاحية بمواصفات كالتي تقوم عليها مناطق أخرى من العالم، هذا ليس دقيقا. الحضارات تختلف. فمجتمع شرقي غير غربي، وشعب مسلم ليس معنيا بـ ''إصلاحات'' ذات نفس تغريبي. لكن بين الغربيين منصفين، صدقوا مع أنفسهم قبل أن يصدقوا مع الآخرين.
مثلا، في أيلول (سبتمبر) الماضي سألت وكالة دويتشه فيليه الألمانية كريستوف فيلكه الباحث في منظمة هيومن رايتس، عن العوائق التي تقف أمام الإصلاح الحقيقي في السعودية، فأجاب ''إن البعض في السعودية فهموا توجه الملك عبد الله نحو التغير بأنه إصلاحي بالمفهوم الغربي، أي الإصلاح الذي يقود نحو مجتمع ديمقراطي وليبرالي، وهذا بالطبع غير صحيح، فالملك عبد الله يتحرك وفق معايير المجتمع السعودي''.
ولعل فيلكه يعد ضمن قلائل ـــ قبالة طائفة عريضة ـــ كان دقيقا في تناول الحالة الإصلاحية بشكل دقيق في المملكة، فالإصلاح ليس هبة، كما أنه ليس وصفة سحرية، يتعاطها مجتمع كما يعيشها آخر.
بالتأكيد أن الإصلاح مطلوب، بل حق من حقوق البشر بغض النظر عن هوياتهم وتصنيفاتهم، لكن كيف يكون. من المهم إدراك آليات الإصلاح الحقيقي بعيدا عن الوصفات التي تصلح للاستهلاك بين الجدران الرسمية أكثر بمراحل من قدرتها على تلبية متطلبات الشعوب.
على مدى سنوات، تعامل الملك عبد الله كدأبه بروح المسؤولية، وما يمليه عليه ضميره تجاه شعبه ووطنه، واضطلع على مدى سنوات بدوره المتوقع والمأمول في عملية الإصلاح بمنطقية وتقدم بالبلاد خطوات كبيرة لتحقيق ذلك، وهو ما جعل الطريق معبدة بأياد محلية مخضبة بالوطنية، تجاه تحقيق مدى أبعد من الإصلاحات.
ولعله من نافلة القول أن مجرد تعيين امرأة في منصب كبير قبل عدة سنوات كان ضربا من المستحيل، بينما نرى في يومنا هذا أن التنادي بات يتجاوز ذلك كثيرا، وأن يتضافر المجتمع لتمكين شقائق الرجال من الاضطلاع بأدوارهن في بناء المجتمع جنبا إلى جنب، مع أشقائهن وأزواجهن، بعيدا عن النظرة القاصرة المجحفة تجاه نصف المجتمع، والأهم من هذا وذاك إيمان واقتناع تيار عريض بحتمية الإصلاح عموما. الإصلاح النابع من الداخل، لا ذلك الإصلاح المعلب.
إن الوقوف على مكامن الخلل، جزء من الحل. من ينسى، أنه قبل عدة سنوات بينما مسؤولون في جهات عدة يلطفون صورة البطالة والفقر في البلاد، كان الملك عبد الله يجول في مساء رمضاني بين أحياء مناطق شعبية وبيوت فقيرة في جنوب الرياض، ويرى بنفسه الفرق بين الصورة والأصل. ليزيد من رصيده الإنساني في قلوب شعبه ويؤكد حضور الإصلاح وشجاعة الاعتراف بوجود الخلل ووجوب معالجته. إنها الإرادة السياسية التي تعبر عن الإخلاص في تأدية الرسالة بالفعل الصريح لا بزخرف القول.
من المهم إدراك أهمية الإصلاح الحقيقي، الذي تلهمه إرادة سعودية خالصة، تعبر بوعي وصدق عن ملك يستمد قوته وحضوره من شعب يثق به ويعبر عن إرادته بإدراك ونضج حقيقي بائن غير مرتبك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي