العراق .. النموذج الأمريكي لترسيخ الديمقراطية!

لا تزعم الولايات المتحدة اليوم أن إطاحتها بالنظام السابق في العراق، جلب معه الديمقراطية، فعلى أنقاضه حدثت "فوضى خلاّقة" قالت إنها تريدها لإعادة البناء، ولا سيما بعد تفكيك ما هو قائم، لكن الفوضى استمرت طوال الأعوام الثمانية، على الرغم من التحسّن في الوضع الأمني، لكن الأمور لا تزال تسير ببطء شديد وتعثر كبير، والعملية السياسية لم تخرج من عنق الزجاجة حتى الآن، بسبب سياسات المحاصصة والتقاسم المذهبي والإثني.
وإذا كان ذلك واقع الحال، لكن الحجج التي ساقتها واشنطن لتغيير النظام السابق، لم تكن بعيدة عن ذلك فادّعت أن بغداد على علاقة بالإرهاب الدولي، ثم وجود أسلحة دمار شامل، بحيث يستطيع خلال 45 دقيقة من إنتاج مادة الإنتراكس، وهي كفيلة بقتل ملايين الناس، ثم روّجت لفكرة قيام نظام ديمقراطي على أنقاض النظام الدكتاتوري السابق، في إطار ما سمته شرق أوسط كبير، وبعد حرب تموز (يوليو) الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006 طرحت كونداليزا رايس مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي ستتمخض عنه الحرب التي استمرت 33 يوما، لكن كل ذلك لم يحصل، فالنظام السابق وإن كان دكتاتوريا، لكنه لم يملك أسلحة دمار شامل ولم يكن على علاقة بتنظيم القاعدة، كما لم تتحقق الديمقراطية الموعودة على أنقاضه، ولم ينعم الشرق الأوسط بالاستقرار والرفاه والحرية، سواء كان كبيرا أو جديدا.
لم تكن قيادة الرئيس بوش تدرك حجم الخسائر والأضرار الكبيرة والفادحة التي أصابت الولايات المتحدة، تلك التي وصلت اليوم إلى أكثر من 4400 قتيل وما يزيد على 26 ألف جريح، حسب الأرقام المعلنة من جانب وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، لكن الصدمة الكبيرة كانت قد واجهت واشنطن في أواخر عام 2008 يوم حفرت الأزمة الاقتصادية والمالية بعمق في قلب النظام الرأسمالي العالمي، ولا سيما في الولايات المتحدة، حيث كانت تكلفة الحرب باهظة ووصلت في ذلك الحين إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار، وأخذت تلك الأزمة تتعمق بسبب المستنقع العراقي، الأمر الذي دفعها للهروب إلى الأمام بعد توقيع اتفاقية مع العراق نقلت فيه الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، وستضطر إلى الانسحاب من العراق في نهاية 2011، مع أن احتمالات البقاء واردة، بقوة عسكرية مؤهلة وقواعد لا تزال مؤمّنة ومحميّة، لكن ذلك يمكن أن يتم بتوقيع اتفاقية جديدة مع العراق وفي ضوء التطورات الجديدة. صحيح أن العراق شرّع دستورا دائما فيه الكثير من المبادئ الديمقراطية وأجرى انتخابات ثانية، لكن الدستور احتوى على الكثير من الألغام التي يمكن أن تنسف الإيجابيات الواردة فيه، فضلا عن القيود الكثيرة، بما في ذلك نحو 50 مادة تحتاج إلى إصدار قانون، وينتظر الدستور تعديلا لا يزال مسكوتا عنه، أضف إلى ذلك أن نظام المحاصصة عطّل الكثير من بنوده، كما أن استمرار أعمال العنف والإرهاب جعل حالة الطوارئ هي السائدة، خصوصا استمرار منع التجوّل، على الرغم من مرور ثماني سنوات على الاحتلال.
وقد تفاقم الفساد إلى درجة مريعة، واحتل العراق الصدارة بين دول العالم في تقارير منظمة الشفافية الدولية، وارتفعت موجة العنف الطائفي والمذهبي والإثني إلى درجة تشظّي المجتمع العراقي، ولا سيما في ظل وجود الميليشيات المعلنة أو المستترة، ناهيكم عن جماعات الإرهاب الخارجة عن القانون، بما فيها تنظيمات "القاعدة" الإرهابية، واستمرت معضلة الخدمات، فالماء الصافي شحيح والكهرباء لا تزال غائبة في معظم الأوقات، والبطالة تضرب بأطنابها، والحكومة معوّمة على الرغم من إجراء الانتخابات منذ آذار (مارس) 2010، وبعد ولادة عسيرة دامت نحو عام فلا تزال الوزارات الأمنية فارغة، فأين الإنجاز الديمقراطي الذي يمكن الحديث عنه إن لم يقترن بثقة الناس، خصوصا تلبية حاجاتها الأساسية؟ ولعل صندوق الاقتراع وحده ليس مؤشرا أو دليلا على الديمقراطية إنْ لم يقترن بالمساواة والمساءلة وسيادة القانون والمواطنة السليمة والحريات والعدالة.
لقد حذّر رئيس الوزراء العراقي من التظاهر، ولا سيما من المندسين، خصوصا تنظيمات "القاعدة" والبعثيين، وذلك في محاولة لإجهاض التحرك الذي يطالب باستعادة الخدمات ومحاربة الفساد ومساءلة المفسدين وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتقليل رواتب المسؤولين وتحسين مفردات الحصة التموينية وغيرها.
وإذا كان ذلك مفهوما و"مبررا" لأي حاكم يلتجئ إليه، وإنْ كان غير مبرّر، إذا كانت المطالب مشروعة وعادلة، فعليه أن يبذل ما في وسعه لتلبيتها والاستماع إلى رأي المحتجين، ولا سيما إذا اختاروا الطريق السلمي، وابتعدوا عن العنف وكانت مطالبهم تعبيرا عن حاجات ملموسة تمسّ صميم حياتهم، فالدستور على الرغم من نواقصه وعيوبه يكفل حق التظاهر السلمي، وأي تجمّع سواء كان لزيارة المراقد أو لمناسبة عاشوراء أو غيرها يمكن أن يؤدي إلى انضمام مندسّين، الأمر الذي لا يستوجب إلغاءها من جانب المعنيين سواء الحكومة أو رجال الدين المتنفّذين، وما يطلق عليهم اسم "المراجع العظام" والمقصود أربعة أساسيين هم آيات الله: السيد علي السيستاني، والسيد محمد سعيد الحكيم، وإسحق فياض، وبشير نجفي.
ومرّة أخرى أقول إذا كان موقف رئيس الوزراء مفهوما، فموقف المرجعية غير مفهوم أو لا يزال ملتبسا ويراوح بين التأييد والتنديد، وبشكل عام ظلّ ضبابيا، من خلال تصريحات الناطقين باسم السيستاني، وأعني بهما الكربلائي والصافي، اللذين ظلاّ على مدى شهرين يحرّضان بشدّة على الدفاع عن بعض المطالب الشعبية مثل عدم استحداث المزيد من المناصب الحكومية لمنع ترهّل الدولة وأجهزتها، ويتحدثان عن سوء الخدمات وتفاوت الرواتب واستشراء الفساد والبطالة وعدم التلاعب بمفردات البطاقة التموينية، وهو أمر إيجابي، تبنّاه أيضا المجلس الإسلامي الأعلى وجماعة السيد مقتدى الصدر وقوى دينية أخرى، لكنه عاد عشية تظاهرة 25 شباط (فبراير) إلى إصدار تحذير من الاندساس، ووضع شروط تقترب من الامتناع عن المشاركة، وهو ما جاء متناغما مع تصريحات رئيس الوزراء، وقبل ذلك دعا السيد مقتدى الصدر إلى تأجيل الاحتجاجات لمدة ستة أشهر لإعطاء فرصة للحكومة. وإذا كانت التظاهرات قد نجحت في لفت النظر على الرغم من العقبات التي وضعت في طريقها وإغلاق الطرق والجسور والاعتقالات التي شملت بعض الصحافيين، وتوقيعهم على تعهدات تذكّر بتعهدات النظام السابق، وأكّدت استمرارها وتجددها، الأمر الذي اضطرّت معه المرجعية إلى التأكيد على لسان من يمثلها أنها مع شرعية التظاهرات إذا ما حافظت على الإطار السلمي دون نسيان التعبير عن قلقها، وشكرت المتظاهرين كما شكرت الذين لم يتظاهروا، بمعنى من استجابوا لها، ودعت حكومة المالكي إلى تقديم الخدمات والاستماع إلى المطالب، وقال من ينطق باسمها إن المرجعية طالما حذّرت الحكومة من خطورة هذا الأداء، ولقد صبر الناس طويلا.
أستطيع أن أتفهم حراجة موقف المرجعية التي دفعتها الأحداث إلى إبداء رأيها والنطق بعد اضطرار طويل إلى الصمت في زمن النظام السابق، كما أقدّر حرصها على حماية الأرواح والممتلكات، فهو أمر مشروع ومفهوم، خصوصا إزاء محاولات الاندساس والعبث، لكن مثل هذا الأمر قد يحدث أيضا خلال الزيارات للمراقد وفي المناسبات الدينية، لكنها لم تتخذ الموقف ذاته، علما أن القضية لا تتعلق هذه المرة بطقوس أو شعائر أو روحانيات، بل إن المسألة تتعلق بصميم حياة الناس واحتياجاتهم الإنسانية، ولا سيما الضرورية والأساسية. وسبق للكربلائي ممثل السيستاني أن أجاب عن سؤال بخصوص تلك المناسبات التي تكرّس لها الدولة كل طاقاتها، وتتعطل الدراسة أحيانا، وأحيانا أخرى تتعطل دوائر الدولة ومؤسساتها ويُستنفر الجهاز الأمني بالكامل وغير ذلك، قال و"ماذا لو تعطلت الدولة؟"، فالأمر يستحق ذلك، لكن ألا تستحق الخدمات والفساد والبطالة تسخير كل شيء في الدولة من أجلها، والضغط على الحكومة لتحقيقها، خصوصا بعد مرور ثماني سنوات على الاحتلال؟ ثم ألا يستحق ذلك دفع الناس للتظاهر حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم أو تتـنحّى إنْ لم تكن قادرة؟ أظن أن الغضب العراقي لا يزال يتفاعل وقد يتصاعد وقد ينفجر وقد تعمّ الفوضى إنْ لم تتم تلبية مطالب المتظاهرين، وهي مطالب مشروعة باعتراف الجميع، وقد شهد التاريخ العراقي احتجاجات كاسحة، ولم يصغ الشارع سوى لعقله وضميره ولحاجاته الإنسانية والحياتية، فقد أطاحت الاحتجاجات معاهدة بورتسموث عام 1948 وأسقطت حكومات وقادت انتفاضات وثورات في أعوام: 1952 و1956 و1958، وكادت انتفاضة عام 1991 تطيح بالنظام السابق لولا تعرّضها لمحاولات تحريف وتجويف ومساومة ومؤامرة لعبت فيها القوى الدولية والإقليمية دورا سلبيا، خصوصا برفع بعض الشعارات والصور من جانب بعض الجماعات الدينية التي أدّت إلى استفزاز الآخرين.
ولم تكن للمرجعية حينها الدور الذي تلعبه اليوم، فعسى أن نقرأ التاريخ جيدا، لا تاريخنا البعيد حسب، بل من تاريخنا القريب، خصوصا أن حركة الاحتجاج شملت العراق من أقصاه إلى أقصاه، من السليمانية في كردستان والموصل في شمال العراق إلى البصرة في جنوب العراق مرورا بمدن الفرات الأوسط، فضلا عن الرمادي وصلاح الدين، وفي الأساس كانت الحركة الاحتجاجية قد انطلقت من بغداد بزخم شديد تريد الإصلاح دون شعارات غير أيديولوجية، بل شعارات واقعية وإنسانية ومطلبية وسلمية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي