الاستيطان الإسرائيلي والتراجع الأمريكي «2 من 2»

نواصل اليوم الحديث في الجزء الثاني عن قضية الاستيطان الإسرائيلي والموقف الأمريكي، والواقع أنه لم يكن بإمكان محمود عباس الاستجابة للطلب الأمريكي بسحب مشروع القرار من مجلس الأمن بعد أن تسربت المحاضر السرية لمفاوضات السلطة الفلسطينية مع إسرائيل ونشرتها قناة ''الجزيرة'' القطرية وصحيفة ''الجارديان'' البريطانية، وكشفت عن التنازلات الخطيرة التي قدمها المفاوض الفلسطيني خاصة فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي أثار استياء وغضباً شديدين في أوساط الفلسطينيين وفي العالم العربي، ووضع السلطة الفلسطينية في موقف حرج، ولو استجاب محمود عباس للمطلب الأمريكي بسحب مشروع القرار لألحق بنفسه وبسلطته عاراً لا يزول، وثبت على نفسه وعلى سلطته تهمة الخيانة.
جدير بالذكر هنا أنه بتاريخ 18/01/2011، أي قبل التصويت على مشروع القرار في مجلس الأمن بنحو شهر، تلقى البيت الأبيض رسالة بعث بها عدد كبير من المسؤولين السابقين والمفكرين والصحافيين الأمريكيين المعروفين، تطالب إدارة الرئيس أوباما باتخاذ موقف حازم تجاه الاستيطان الإسرائيلي ودعم مشروع القرار العربي الذي قدم لمجلس الأمن، محذرين من تبعات نقضه على وضع الولايات المتحدة كوسيط في الصراع العربي الإسرائيلي، وقال الموقعون في رسالتهم إن الوقت حان لإشارة واضحة من واشنطن للأطراف والمجتمع الدولي بأن الولايات المتحدة تستطيع أن تعالج الصراع بموضوعية واحترام للقانون الدولي. وأقرت الرسالة أنه بينما لن يحل قرار مجلس الأمن قضية المستوطنات أو يمنع المزيد من البناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة، فإن المجلس يبقى المكان المناسب لطرح هذه القضايا وإعلام جميع الأطراف بأن الخرق المتواصل للشرعية الدولية لن يبقى مسموحاً به. وأضافت الرسالة أن المصادقة على هذا القرار لا تقلل من الحاجة للمفاوضات المستقبلية لحل القضايا العالقة، ولن تقلل من التزامنا القوي بأمن إسرائيل. كما أشارت الرسالة إلى جميع القرارات الدولية التي لم تلتزم بها إسرائيل، وأوضحت التأثير السلبي للاستيطان على جهود إحلال السلام في المنطقة.
وحذر الموقعون من أن استخدام الفيتو لنقض القرار يضر بصدقية الولايات المتحدة ومصالحها، ويضعها خارج الإجماع الدولي، ويضعف قدرتها على الوساطة في هذا الصراع.
ومن الموقعين على هذه الرسالة:
وزير الدفاع الأسبق فرانك كارلوتشي، ووزيرة الإسكان السابقة كارلا هليز، وسفراء واشنطن السابقون في إسرائيل توماس بيكرينج وادوارد وواكر وويليام هاروب، والسفير السابق في البرتغال إيفريت بريجس، والسفيران السابقان في الرياض تشار فريمان ووالتر كتلر والسفير السابق في لبنان جون دين، والسفيرة السابقة في سلوفانيا جوزيف دافي، والرئيس السابق لوكالة المعلومات الأمريكية والسفير السابق في الأردن فيز إيجان، والسفيران السابقان في الكويت إدوارد غنيم وآنتوني كوينتون، والمساعدون السابقون لوزراء الخارجية جيمس دوبنز وروبرت باستور وريتشاد مورفي ونيكولاس فيليوتيس وآلان هولمز وروسكو سودارث، والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي ويلياك كوانت، ورئيس طاقم وزير الدفاع السابق لورانس ويلكيرسون، والحاخامان لوينارد بيرمان وفيرزا فايرستون وآخرون.
وبالرغم من نصيحة الموقعين على الرسالة، وبالرغم من أن أعضاء مجلس الأمن أيدوا مشروع القرار المقدم من المجموعة العربية، وأنه كان مدعوماً من 130 دولة، إلا أن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض، وبررت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس معارضة بلادها لمشروع القرار بأن (السبيل الوحيد للوصول إلى الهدف المشترك هو المفاوضات المباشرة بين الجانبين بدعم نشط ودائم من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي)، وقالت أيضا إن معارضة الولايات المتحدة لمشروع القرار لا تعني على الإطلاق تأييدها للأنشطة الاستيطانية. وأبدت الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين أنستون الأسف لعدم التوصل إلى توافق في مجلس الأمن حول مشروع القرار المذكور، وأكدت موقف الاتحاد الأوروبي حيال المستوطنات الإسرائيلية بما في ذلك القائمة في القدس الشرقية بأنها غير قانونية بموجب القانون الدولي وعقبة في وجه السلام وتشكل تهديداً لحل الدولتين.
وفي تقديري أن المبررات الأمريكية لإجهاض مشروع القرار العربي يتهافت بعضها فوق بعض، فليس من المقبول القول إن صدور قرار من مجلس الأمن بإدانة الاستيطان الإسرائيلي من شأنه الإضرار بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، خصوصاً أن الولايات المتحدة تقر بأن هذا الاستيطان غير شرعي، وفي ضوء هذا الإقرار يصح التساؤل كيف يترتب على مجرد إدانة هذا الاستيطان والتأكيد على عدم شرعيته إلحاق الضرر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية؟!.. ليس من تفسير لهذه الذريعة سوى أن الولايات المتحدة أصبحت تعتبر الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية مصلحة استراتيجية أمريكية، فإن كان ذلك كذلك فتلك كارثة خطيرة، وإذا لم يكن هذا التفسير صحيحاً، فإن هذه الذريعة تعد عذراً قبيحاً لا يليق أن يصدر من دولة عظمى تزعم أنها وسيط بين طرفي النزاع. أما بخصوص المبرر الآخر بأن المفاوضات هي السبيل الوحيد للتسوية بين الطرفين، فهو أيضا غير مقبول البتة، فالقرار لو صدر لم يكن يضيف شيئاً جديداً من الناحية القانونية، وإنما يؤكد مبادئ القانون الدولي والقرارات السابقة التي أصدرتها الأمم المتحدة بشأن إدانة الاستيطان والسياسة التوسعية الإسرائيلية، يضاف إلى ذلك أن المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان وانعدام توازن القوى بين الطرفين لن تؤدي إلى تسوية مرضية ودائمة، والقول بغير ذلك سراب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي