اقتصاد المعرفة.. منظومة العلوم والتقنية (2 من 2)
يثير الحديث عن اقتصاد المعرفة، الأدوار الحضارية التي ينهض بها التمازج المذهل بين العلوم والتقنية، اللتين شكّلتا على نحو عجيب حياتنا المعاصرة؛ ما يعجّل بضرورة ترشيد أدواتنا وآلياتنا لاستحداث منظومة جديدة للعلوم والتقنية، في إطار استراتيجية متكاملة، معتمدة على مسارات مهمة: العلوم والتقنية - الاقتصاد - المعرفة - الوطنية. وكل منها له خططه التي تترجم إلى برامج، تتكامل كل الجهود في تنفيذها ويقودها مجلس أعلى، يضم جميع الكفاءات الوطنية العلمية والتقنية والمعلوماتية، تضاف إلى الاستراتيجية الوطنية للتقنية والمعلومات والاتصالات.. على أن تتضمّن هذه المنظومة واستراتيجيتها فعاليات متنوعة، على أن يُفتح باب الحوار الهادئ والعلمي حولها ومناقشتها والتعقيب عليها بوصفها مرتبطة ارتباطا كليا بجميع القطاعات والأنشطة والفعاليات الوطنية؛ فمن الضروري أن تكون لنا آلياتنا الحديثة، ضمن منظومتنا المعلوماتية والتقنية والاتصالات، عليها إجماع وطني من جميع القطاعات، لا تتغير بتغير المسؤول.. ويلتزم بها الجميع، وتكون بمثابة ميثاق عام منسق لجميع القطاعات والجهات؛ خدمةً لاقتصادنا الوطني القائم على المعرفة.. بما يشي أن الهدف العام والأساسي والاستراتيجي، هو نهج سياسة عامة، وليس وزارة ولا جهة محدّدة.. حيث يتهدّد تطوير هذه المنظومة الوطنية عدد من التحديات المهمة، أبرزها:
1. التنافسية الدولية.. ويأتي أدنى هذا العنوان الكبير، عناوين فرعية أخرى، تُقارن مع الدول الأخرى.
حيث تُنَاقش قضايا مثل: موازنة الدولة؛ مرتبات العلماء والباحثين والتقنيين والفنيين، وغيرهم.
2. استثمار الزيادة السكانية، والعمل على تحويلها من عامل سلبي إلى إيجابي.
3. واقع الموارد مقارنة بالطموحات والآمال والأولويات.
4. الموروثات وثقافة التغيير - وهذا في رأيي أهم التحديات.
ويبقى السؤال مطروحا: ما العمل إزاء منظومة العلوم والتقنية في المملكة؟ وما تأثير البحث العلمي على اقتصادياتها؟ وما دوره في تشكيل المستقبل وتأثيره سترشدنا بتجربة الدول لنضع - كما ذكرت - استراتيجية التطوير. مستندين إلى (المعرفة) التي تبدأ من (التعليم)، المؤدي إلى (البحث العلمي) المنتج (الابتكار).. ليعطي في النهاية (اقتصاد المعرفة)!
وأشير في هذا الخصوص، إلى ضرورة توافر ما يمكن تسميته دورة العلوم والتقنية، المستندة إلى أربعة محاور رئيسة، هي: البحوث التي يترتب عليها البحث العلمي - ثم البحوث التطبيقية التي تنتج براءات الاختراع ثم التقنية، التي تعطي النماذج نصف الصناعية، وبعد ذلك يكون التطوير بمنتجاته ومشتقاته الصناعية كافةً؛ وصولا لمجتمع اقتصاد المعرفة المنشود.
إذا درسنا حالتنا في المملكة، حاليا؛ سنجد، لا محالة، جوانب كثيرة مضيئة، ونقاطا مهمة وإيجابيات.. ولكن، في الوقت نفسه، تتوافر أماكن أخرى مُعتِمة في نهاية النفق لا بد من تجاوزها..! وتتبقى مراحل عدة.. وهكذا يجب الاعتراف بأنه ما زال أمامنا طريق طويل ومجهود شاق لاستكمال الدورة الكاملة للمعرفة.. وهذا - كما نرى ضرورة الاستفادة من التعاون الدولي في مجال البحث والتقنية.. ولا سيما في الدراسات المقارنة منها.
ولكن على صعيد مستوى البحث العلمي، لا نجد نتائج يلمسها المواطن العادي منه؛ لذلك بتحليلنا لأوضاع الإنتاج السعودي، بدايةً من البحث العلمي، ومن جمع كل الدراسات والأبحاث التي تضطلع بها المنظمات الدولية - ومنها البنك الدولي مثلا - والوطنية؛ لبحث أسباب عدم استكمال المنظومة رغم وجود علماء سعوديين أكْفاء.. ومن خلال البحث، والاستقراء في آليات الإدارة البحثية الوطنية، وإمكانية توافر مشكلات لديهم من عدمه؛ يتبين من تحليل أوضاع مؤسساتنا للبحث العلمي، ما يلي:
1. عدم توافر خطة وطنية محدّدة الإطار، وغياب التخطيط الاستراتيجي المتكامل.
2. ما زال البعض يجهل كيفية إدارة المعرفة وما لدينا من معلومات، ويكتفي فقط بتخزينها!
3. غياب المتابعة وتقويم الأداء.
4. وجود مشكلة في التنسيق، والتمويل، حيث تحصل كل مؤسسة على ميزانية وتفعل بها ما شاءت دون تكامل وتنسيق مع غيرها!
5. ثمة وجود مشكلة في الموارد البشرية، حيث يتوافر لدينا ثروة بشرية جيدة، لكنها مبعثرة لأسباب عدة، أهمها: تلاشي المهام المحدّدة والمقابل المادي المناسب!
6. تعدد أطراف منظومة البحث العلمي؛ فإنه ليس مسؤولية مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وحدها، لكنه أيضا مسؤولية الدولة والمجتمع. بدليل وجود مراكز بحثية في الجامعات وجهات عدة.. وبعد تحليل ذلك، وبدراسة مقارنة لإدارة نظم العلوم والتقنية في عدد من الدول المتقدمة مثل: اليابان - فرنسا - إنجلترا - الولايات المتحدة - ألمانيا - إيطاليا.. وبعض الدول التي حققت نجاحات، مثل: البرازيل وماليزيا وإندونيسيا وكوريا والهند وسنغافورة.. وكذلك باكستان - تركيا - إيران - إسرائيل.. وكانت النتيجة أننا ما زلنا في حاجة إلى نظام إدارة حديث وإلى تغيير القرارات والأنظمة المحدّدة؛ وإلى ضرورة توافر تمويل رسمي واضح بمشاركة فاعلة من القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وتشجيع الاستثمار في التقنية بإعطاء مزايا، منها: الاهتمام بالموارد البشرية بدايةً من الشباب.. والاهتمام بالتعاون الدولي.. ووضع نظام لتقويم أداء المنظومة ككل؛ وضرورة إخضاع أوضاع كل مؤسسة من مؤسسات ومراكز البحث الموجودة لدراسة علمية، وبحثية جادة، مدعومة بقياسات علمية وتنظيمية.. لتبحث عن الخلل المطلوب!
وفي الأخير، يمكن القول: إن انتهاج مفهوم اقتصاد المعرفة، هو ما يعكس تحولا في الأسس التنافسية للأنشطة كافة، ولا سيما الاقتصادية؛ والعلمية والتقنية من حيث المنظمات والأفراد، شريطة توافر أربعة مسارات مترابطة، ومتماسّة ومتفاعلة فيما بينها:
- إحداث تطوير فعّال، وتغيير ملموس في البيئة الاقتصادية والصناعية من حيث الفلسفة والمنهج والآليات.
- إحداث تطوير فعّال، وتغيير أيضا في أساليب المهارات المطلوبة، مع رفع كفاية المهارات والمعارف والخبرات والقدرات والكفاءات البشرية بما يتواءم مع التنامي المعرفي والتقني.
- إيجاد أنماط جديدة للمعرفة، مع تنامي الاهتمام بدعم إبداعات وتطبيقات المعرفة في التحديث بشبكات المعلومات والاتصالات على تنوع صورها ومستويات تعقيدها.
- إرساء قيم الابتكار، وإعلاء مفاهيم الإبداع، كأنماط وآليات لزيادة الكفاية التنافسية للاقتصاد، مع دعم إدارة المعرفة وتفعيلة آلياتها، حيث تصبح هي الأساس الذي يقوم عليه النمو الاقتصادي والتحديث والتجديد، ما يتطلب إعادة تأهيل وتدريب الأفراد، وصقل خبراتهم ومهاراتهم ومعارفهم، مع إمدادهم بكل التقنيات التي تدعم مهاراتهم وقدراتهم.