"أَلْق دلْـــوكَ في الــــدِّلاء"
المفهوم المجتمعي لعبارة السياسة الاقتصادية يختلف مدلوله بين الشعوب والمواطنين, ويتغير هدْيُه لمتعاطيه, وتختلط أبعاده الفكرية في الحديث المجتمعي لفلسفة علم الاقتصاد السياسي بما يعكس تطور الفكر الفلسفي في شؤون معيشة الأمم والأفراد ليرقى أكاديمياً لمفهوم الاقتصاد السياسي الصحيح, "الذي يعنى بمختلف أوجه النشاط الإنساني المرتبطة بالثروات الاقتصادية, وبالقوانين العلمية التي تفسر الظواهر الاقتصادية المرافقة". يقول الدكتور قبلان كيدور إن الاقتصاد السياسي علم "يدرس النشاط أو الجهد الإنساني إزاء الطبيعة لاستخلاص الأرزاق النادرة لتلبية احتياجاته, والسبل الموصلة إلى هذا الاستخلاص, والطرق الكفيلة لسيطرته عليها السيطرة الكاملة, وكيفية توزيع الإنتاج توزيعاً عادلاً بين جميع فئات الأمة". السياسة الاقتصادية تتأثر بفزلكات واقع الاختلافات الطبيعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيم المتبعة واختلافات وأخلاقيات طبيعة الشعوب ونجاحها مرتبط ارتباطا عضويا مباشرا للمعاشرة المجتمعية لحقيقة نفسها ولا تؤثر في واقع الأمور ومرتكزاتها إلاَّ بقدر معيشتها مطابقاً لواقعها الاجتماعي والاقتصادي, وأن تقطره وتتخطاه إلى معرفة تحليلية للتوقعات المنتظرة والمقدرة والمرتقبة وتوفير الإجراءات الكفيلة بتنظيم المشكلة الاقتصادية وإحكام السيطرة عليها.
العالم الإيطالي أودون فانيني يرى السياسة الاقتصادية "مجموعة القواعد والأفعال التي تلجأ إليها الدولة للتدخل في الحياة الاقتصادية العامة". التدقيق في التفسيرين يوضح الفارق بين العبارتين, والتباين الزمني في الاستعمال والتفاوت الاقتصادي الفكري لمسؤوليات الدولة وواجبات المجتمع وحق الفقير المسكين الضعيف عند القوي في العلم والمعرفة والتقانة. وتصرُّف المنطق لقوله تعالى "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء", وتبيِّن التسلسل لمكونات مرحليتهما حيث الاقتصاد السياسي يهتم بالدراسة العلمية للظواهر المتعلقة بالنشاط الاقتصادي الذي بدوره يتولى تنفيذ السياسة الاقتصادية وتحقيق أوجه الربط بين وجهيه الإنساني والمادي.
المستهدف من الفكر الاقتصادي السياسي السعودي أوضحه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في "استمرار سياسته التي ترمي إلى تحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد .. إلخ. يحتاج إلى إنجازه سياسة اقتصادية" في التنمية الشاملة, تفرغ الاقتصاد الوطني من انحرافات وتباين السياسة الاقتصادية السعودية عن فكر وفلسفة الاقتصاد السياسي السعودي حتى يصح الصحيح.
خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في مجلس الشورى يوم السبت 1/4/2006 تضمنت فقرات غطت فلسفة الاقتصاد السياسي من المنظور السعودي "عندما أكد الملك الذي افتتح أعمال السنة الثانية من الدورة الرابعة للمجلس استمرار سياسته التي ترمي إلى تحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي". وأوضحت معالم السياسة الاقتصادية السعودية في التنمية الشاملة, مشيراً إلى أنها تسعى لتوفير السكن والعمل والعلاج للمواطن ومكافحة الفقر والاهتمام بالمناطق التي لم تحصل على نصيبها من التطور.
الاستقراء من الكلمات الواضحة والعبارات الصادقة لصواب فلسفة التوجه الاقتصادي واهتمامه بقطاعات الاقتصاد المتخلفة في عطائها المتعطش لتحسين أحوالها, وتمثل وفقاً للقراءات المتوافرة والتحليلات المتناقلة في أحاديث المجتمعات, لشريحة كبيرة من المجتمع تفوق أعدادها الشريحة الإنتاجية التي تدار وفقاً للأنماط الغربية الراكضة خلف الفرص الواعدة والأسواق المزدهرة وغير عابئة لفرص تجارية مربحة في المناطق البعيدة والنامية والآهلة بسكان فقراء. الاقتصاد الوطني يتماثل في تركيبة ثروته وإنتاجيته وإنفاقه شكل الهرم, قمته تزخر بالثراء والفرص الواعدة والأعمال الناجحة والمستقبل المزدهر وتمثل ما لا يزيد على 40 في المائة من إجمالي التعداد السكاني وقد يتوافر له ما لا يقل عن 80 في المائة من الثروات الوطنية, وخلافهم "يتمرغون" سلباً في الدنيا المادية والجسمانية حتى قاع الهرم وتعدادها المقدر 60 في المائة ودخولهم ومقتنياتهم المادية والصحة لا تزيد على 20 في المائة من إجمالي الدخل القومي ومتاع الحياة والثراء. الوضع الذي عليه التركيبة المفترضة يتشابه مع خيال أطروفة دراسة سوق مناطق المملكة النائية عن طريق مدير شركة أجنبية لتصدير منتجات استهلاكية, ونظراً للنتائج المخيبة لعدم توافر طلب لبضائعها بالمناطق النائية, قرر حصر المجهود في المدن. بينما اعتبر مندوب شركة أجنبية أخرى نقص توفر المنتجات وضعف القدرة الشرائية يتصاحب مع غياب المزاحمة ليوفر له فرصا طيبة للتعامل التجاري على الرغم من الفقر والتخلف. البنك الدولي وصندوق النقد ونتاج النظريات الاقتصادية الغربية توفر طرقاً منيرة لنماء التخلف بفكر الأغنياء, ولا تعرف الطريق السوي في تطوير مهارات الفقراء وخلق وإيجاد الأسواق يتأثر بمفهوم أن الحاجة أم الاختراع.
التدرُّج في توسيع مفهوم الاقتصاد السياسي الوطني من واقع مجتمعاتنا ليحتوي مستوى التباعد في الدخول والعمالة والعطالة والنشاطات والخبرات بين قمة الهرم والقاعدة مهم, ويتطلب البحث عن آليات وطرق ووسائل عمل إنتاجية مستنبطة من المناطق الفقيرة والمتخلفة لتأسيس نشاطات اقتصادية مهنية وتتناسب مع المجتمعات النامية الفقيرة والمتخلفة. الأفكار والأساليب الاقتصادية والاجتماعية المتوافرة في اقتصاديات المدن لا تتناسب مع احتياجات المناطق المتخلفة. النهوض بالمناطق النائية والمتخلفة يفرض إيجاد الأفكار والخطط والوسائل التي تتناسب معها. التنظيمات المالية والنقدية والتعاملات المعرفية وسلوكيات العمل والتعليم قاصرة لمساندة المسيرة الاقتصادية في المدن ومتطورة ومتقدمة كثيراً عن مستويات مجريات الأمور المعيشية في المناطق النائية وتكلفاتها عالية لإنتاج جيد يتماشى مع رغبات أهالي تلك المناطق . أسواق المدن يغلب عليها المتاجرة مع الشركات العابرة التي تهتم بالمتاجرة مع أسواق المدن, وبعيدة عن مغريات الاهتمام بالأسواق النائية خاصة أن قطاع الأعمال الوطني لا يعتبر المناطق النائية واعدة للتوسع والربح المشجع, وفكر الاقتصاد السياسي العام الرسمي مشغول في تنظيماته باقتصاديات المدن والانفصال التام عن المستويات الفقيرة والمناطق المتخلفة والنائية.
تنفيذ التوجيه الملكي الكريم في مجلس الشورى من المفهوم الاقتصادي يتطلب إحداث تحول جوهري لفلسفة الاقتصاد السياسي السعودي نحو اتجاهين منفصلين لدراسة وتحر علمياً الظواهر المتعلقة بالنشاط الاقتصادي الشامل لقسمي الهرم وتطوير وتحديث الفكر الاقتصادي الاجتماعي الشامل للقمة والقاع وتحري الأدوار الرئيسية للعامة والرسميين والأهليين والمدنية والشركات الخارجية لمسؤولياتها واهتماماتها في مجالات الثروة والمبادلة والمنفعة. توضيح معالم مفهوم التوجه الاقتصادي السياسي السعودي مهم لتحقيق نجاح تنمية المناطق النائية ودعم اقتصادياتها لتتقارب مع اقتصاديات المدن وربط مناطق المملكة اقتصادياً واجتماعياً بالخطط الإنمائية فكراً وعملاً, لتوفير تسلسل وتناسق تحركات النشاطات الاقتصادية الداخلية. الإسراع في توفير وتحسين الخدمات المساندة وفقاً لجدول زمني لنقل البضائع والأفراد يعتبر رأس الحربة لهذا العمل. تكامل الإنجاز والتزام التوقيت من الأجهزة الحكومية والأهلية والمدنية مطلب مهم وحيوي تطرَّق له خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في قوله "محاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي", ويمثل وضوح فلسفة الاقتصاد السياسي السعودي لرجالات الحكومة وأصحاب الأعمال والمثقفين و"مفخرة" في مفهومهم للسياسة الاقتصادية السعودية, المنجزات وتحقيق الطموحات متخلفة عن الفكر الاقتصادي السياسي السعودي المعلن, والسياسة الاقتصادية السعودية المبعثرة بين جهات حكومية رسمية تتنازع التفسير والتطبيق والعقاب تاركة مساحة كبيرة بين الدلو والأداء.
احتياجات الاقتصاد الوطني المتنامي في المناطق النائية تختلف عما عليه احتياجات وقدرات اقتصاديات المدينة. وتوفيرها لا يفيد تحرك إنتاجيتها ومعيشة أهلها من منظور المخصصات المعتمدة لتمويل وتوفير خدمات وسلع وبضائع, بالفكر الاقتصادي الاجتماعي الدارج والمكتسب من الترجمة الحرفية للنظريات الاقتصادية الاجتماعية الغربية وبفكر محلي سعودي. الأسلوب المعتمد في الإنفاق غالبه استهلاكي وتخصيص الأموال "بالقطارة" تماشياً مع توفير الاعتمادات, دون الاهتمام بالأهداف المستنبطة من أرض الواقع وحقيقة المشكلة الاقتصادية من منظور إنساني, لتصحيح أوضاع اجتماعية من الفاقة إلى الرفاهية المنتجة, وتغير توجهات أصحابها إلى مراكز إبداع وإنتاج وتقدم . توفير المعرفية والتقانة الإنتاجية لا تأتي من فراغ وليس من المعجزات التي عصورها قد ولَّت, ويتطلب تحقيقها استثمار الأموال والمعرفة والتقانة المخصصة والجهود المخلصة دعماً للقطاعات الفقيرة والمتخلفة لتنهض وتنفع نفسها بعمل نافع, توفر احتياجاتهم, ويعطي إضافة لإجمالي الدخل القومي الحقيقي ويزيد من ازدهار المجتمع. الاستثمار الإنمائي المنبثق من واقع المشكلة الاقتصادية المحلية السعودية أكثر فائدة وجدوى من الفرضيات المستوردة. المناطق النائية الفقيرة والمتخلفة قد يعطي عائداً أحسن في أهدافه وأغراضه وتنوُّع المنتجات من الاستثمار في المناطق المزدهرة. الأولى بكر ومتعطشة للنعمة وغير رافضة لفكرة أن الجود من الموجود, والثانية متخمة وملهية في جمع الأموال وتكاثرها بعد أن فقدت قيمتها الحقيقية وتماثلت فوائدها للأحجار لفقدان الاستفادة والقدرة الاستثمارية بخطة تنمية شاملة. التركيز وحصر تكاثر الأموال يقلل من منافع الاستفادة وتزايد البطر والتغالي في استمرارية معيشته المرتفعة الكلفة. تضييق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية لمناطق الوطن وداخل مدنه وقراه, يحقق هدف توحيدها وغاية رفعتها وتقوية دفعها للأمام.
كتاب "الثروة الهرمية" يقدم تصورا لتجني أصحاب الكفاءات العلمية من رسميين وأهالي ومدنيين على مواطنين مبدعين منتجين يتمتعون بقدرات استهلاكية واعدة والنظر إليهم على أنهم ولدوا ضعفاء ليعيشوا فقراء مساكين. حقيقة النظرة الاقتصادية الإنمائية الشاملة تكمن في فتح قنوات فكرية الاقتصاد الوطني ليدخل من أوسع أبوابه وبالعلم والمعرفة والتقانة, الفقراء العاطلون إلى عالم جديد لفرص العمل المنتج المفيد لازدهاره على يد فقراء خاملين ضائعين في حياتهم وليسوا مستفيدين من الخيرات المتوافرة لهم وغير قادرين على أن يسهموا في تنمية مجتمعهم.
التحول الذي يتطلع له المؤلف براهالد يتطلب تعميم التقانة, والإبداع في صناعة تطوير السلع والخدمات لأذواقهم ومستوياتهم المعيشية والتدريب على الطرق والوسائل المنتظمة في العمل وسلوكيات الحياة, وصحة الأجسام في طريق توفير العقل السليم والفكر الصحيح. المؤلف براهالد يوضح أن نجاح التنمية عن طريق الثروة البشرية الفقيرة يتطلب من "الشركات الكبيرة الدولية والوطنية التعاون مع المنظمات والمؤسسات المدنية والإدارات الحكومية المحلية" في وضع مخطط تحويل الفقر إلى قطاعات منتجة تعطي بعون من الله ودعم من الدولة ومساندة من الأهالي, وتعاونهم لتحويل "المنسيين" إلى مواطنين منتجين بعد تزويدهم بالهداية والعلم والمعرفة وتدريبهم للعمل المتوافر لهم. برنامج تطويع العاطلين يحقق نجاحاً أكبر لطبقات لا تعرف لبحبوحة الحياة طريقاً لسعادتها وتعيش طول حياتها تتطلع لتحسين أحوالها ومتعطشة والماء يجري من حولها.
إشراك شريحة فقيرة للعمل المنتج في المال والثراء والمعرفة والتقانة, وإدخالهم معترك الحياة يوسع سوق العمل ويحسن فرص التعامل للصانع والتاجر والزارع . تجارة مساندة الفقر لتتحسن الأحوال من كسب معيشة حسنة تجارة رابحة, وتمثل توجهات في السياسة الاقتصادية وإضافة اقتصادية للوطن والمواطن الفقير والثري صاحب الأعمال والمستثمر. اهتمام الصناع والتجار في تطوير وتحوير منتجهم بتصغير الوحدات الاستهلاكية المعروضة للبيع وتوفير مكونات محلية لإنتاجها بكلفة اقتصادية يغير من طريقة العمل ومفاهيم المنتج وتكلفته بما يحفظ الربحية للصانع والتاجر والبائع والسعر الأقل لجودة تتناسب مع احتياجاته أكثر من اعتبارات تسويقية غربية غريبة في طريق الخروج من ظلمة الفقر إلى حياة أكثر سعادة مما تعودوا عليها, وتدفع الازدهار الاقتصادي الوطني على الرغم من التغيُّب الذي عليه أصحاب مدارس الفكر الغربي.
تناغم الخيرات مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية من مفهوم محلي بخبرات غربية متطورة يعطي مردودا أحسن من أن نصبح غربيين في فكرنا ونهجنا أكثر من مدارس فكر التنمية الغربية, ومستغربين لغربتنا في ديارنا. العمل والإنتاج لمعرفة طرق النماء ومضاعفة الدخل وتنويع مصادره بما فيها القطاعات الاقتصادية المتخلفة والفقيرة ليرقى نجده في أن نعيش حقيقة لاقتصادنا السياسي وتنير طريقه السياسة الاقتصادية المعتمدة ليرقى فكرنا وعملنا توحيدا مع الخطط والبرامج الاقتصادية الاجتماعية والنوايا الطيبة. جدير بنا الاهتمام بتنمية المناطق النائية والفقيرة نفعاً للمتخلف وثراء للمحظوظين. والله أعلم.