الوظائف والاستثمار .. العلاقة المهملة
في مقال سابق نشرته ''الاقتصادية'' بتاريخ 26/10/1431هـ، كتبت عن فرص العمل المضّيعة في عقود التشغيل والصيانة التي تبرمها الحكومة وتقدر قيمتها في الوقت الراهن بأكثر من 30 مليار ريال سنويا، ودعوت إلى مراجعة آلية التعامل مع تلك العقود لتوفير آلاف الوظائف للمواطنين ذات الطابع المستقر والرواتب المجزية يُنص عليها مسبقا ضمن شروط المنافسة عند طرحها. إذ إن الاستقرار الوظيفي والراتب المناسب هما ركنان أساسيان لنجاح أي برنامج للسعودة، وفي غياب أي منهما لن تتحقق أي مكاسب مستدامة ينشدها المجتمع في المعركة التي يخوضها ضد البطالة.
وما يعزز ذلك الطرح هو الإخفاق الذي شاهدناه في برامج السعودة خلال الـ30 عاما الماضية في عقود التشغيل والصيانة بسبب ما واجهته من عائق نظامي وضع سقفاً لمدة تلك العقود لا تزيد على (3) سنوات. وهي فترة أثبتت التجربة تلو الأخرى أنها غير كافية لتوفير وظيفة مستقرة للمواطن الذي يتطلع لتنظيم حياته وبناء أسرته، ناهيك عن تأهيل كوادر مدربة تبني سجلها المهني من خلال التدرج في سلم عمل منتج يضيف للاقتصاد الوطني خبرات تراكمية تزداد عاماً بعد آخر، كما ساهم في إخفاق تلك البرامج خلو شروط المنافسات من بند يحدد الرواتب التي يلتزم المقاول بدفعها للكوادر المطلوبة في العقد، بل تُرك ذلك البند لتقدير المقاول أسوة بالبنود الأخرى في المنافسة.
وقد تمت معالجة الخلل في مدة عقود التشغيل والصيانة بإلغاء ما كان هناك من سقف، وزيادة المدة إلى الضعف تقريبا في النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية الصادر في عام 1428هـ، مع جواز زيادتها لسنوات أطول للعقود التي تتطلب ذلك بعد موافقة وزارة المالية. أما الشق الآخر المهم في ملف سعودة وظائف عقود التشغيل الذي ينبغي التعامل معه فهو عنصر الرواتب التي يمكن أن تقدمها تلك العقود للمواطن ما يقضي ضمنا زيادة تكلفتها عما هو عليه الحال الآن. وأحسب أن تلك الزيادة لمواطن منتج على رأس العمل خير وأكثر بركة من صرف إعانة بطالة للعاطلين.
إن الاستثمارات الكبيرة التي تنفقها الحكومة على مشروعات التنمية لا بد أن يواكبها استثمار مواز لجذب القوى العاملة الوطنية التي ستسند لها مسؤولية الحفاظ على تلك الثروة بحسن صيانتها وتشغيلها. ومن ثم فإن العناية بعقود التشغيل والصيانة التي تبرمها الدولة وإدارتها برؤية ذات بعد استراتيجي لن يقتصر مردودها على الجانب الاجتماعي فحسب، بل لها منافع اقتصادية واسعة. تلك العناية تشكل، بلا شك، ثقافة جديدة، إلا أنها لن تستعصي على الإرادة المشتركة لكل من وزارة المالية ووزارة العمل.
هناك آلية استثمار أخرى قد يستحسن وزير العمل النظر فيها لزيادة معروض الوظائف في السوق، وإن كان حصادها يحتاج إلى بعض من الوقت. تنطلق تلك الآلية من النجاح الذي حققته كل من المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية والمؤسسة العامة لمعاشات التقاعد في توظيف جزء من الأرصدة المتجمعة لديهما. بالطبع هناك مجلس إدارة لكل من المؤسستين يضع سياسة استثماراتهما، لكن ما الذي يمنع من توجيه بعض من تلك الاستثمارات لتأسيس مشروعات أو تقديم خدمات ذات محتوى عال من اليد العاملة المؤهلة؟ ثم ما الذي يمنع من أن تكون تلك المشروعات بالذات في المناطق ذات معدلات البطالة العالية؟
قد يقول قائل إن إدخال معايير أخرى، عدا المعايير التجارية، في اختيار فرص استثمارات تلك المؤسستين، قد يؤثر سلبا في عوائدها المالية ما يضر بمصلحة أرباب التأمينات والمتقاعدين. وهنا لا بد من التذكير مرة أخرى بأهمية التفكير ''خارج الصندوق'' والنظر في المنافع طويلة المدى لتلك الاستثمارات وإن كانت عوائدها المالية في المدى القصير منخفضة. إذ إن توسعة سوق العمل وزيادة المشتركين فيه من المواطنين سيزيد حجم الأقساط التقاعدية التي تدفع لكل من المؤسستين.
إن ما يدعو للتفاؤل في تقبل ذلك الطرح أن وزير العمل يرأس مجلس إدارة المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، كما أنه يمتلك خبرة طويلة في بناء برامج سعودة ناجحة خلال مسيرته المهنية.