قلاقل الإرهاب والطاقة والمناخ توقظ الدب الروسي من سباته الاستراتيجي
معطيات ميدانية عديدة تؤشر على عودة قوية للدور الروسي في ساحة الأحداث العالمية، وقد يكون الاتفاق الذي صادقت عليه موسكو في بروكسيل أخيرا، أحد أهم المؤشرات التي تعصف بتلك الصورة الصادمة التي أُلصقت بروسيا في حقبة ما بعد سقوط جدار برلين، أي صورة تهاوي ''الإمبراطورية السوفياتية''، كما نَظَّر لذلك يوما المؤرخ الفرنسي إيمانويل طود، (وهو المؤرخ نفسه الذي تنبأ في كتاب لاحق بأفول الإمبراطورية الأمريكية).
ففي أشغال القمة التي انعقدت في فرنسا وتميزت بمبادرات انفتاح من قبل الرئيس الروسي تجاه الحلف الأطلسي، اتفق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، على العمل من أجل إقامة ''شراكة'' جديدة بين موسكو وأعدائها السابقين؛ وفي إشارة واضحة إلى أجواء الانفراج والانفتاح، أكد ميدفيديف مشاركته المرجوة في قمة حلف شمال الأطلسي ''الناتو'' يومي 19 و20 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في لشبونة والمتوقع أن تتبنى عقيدة استراتيجية جديدة لم يكن ميدفيديف يُخفي مطلقا قلقه حيالها.
ما الذي جرى بالضبط حتى تُوقّع روسيا على هذا الاتفاق، خاصة أن الغرب لا يرى في روسيا ذلك الابن الذي غاب طويلا، وعاد أخيرا لحضن العائلة، كما أنه حفاظا على ''كرامة الروس''، ما زالت مسألة انضمامها إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، خارج أجندة النقاش اليوم، على الأقل في المستقبل القريب، وربما كان ذلك شعورا مشتركا، بين روسيا والغرب معا. (يتذكر المتتبعون دلالات توقيع اتفاق تاريخي، يندرج ضمن أبسط تبعات/ حسابات مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، عندما وقّع حلف ''الناتو'' وروسيا في ليتوانيا يوم 22 نيسان (أبريل) 2005، اتفاقا تاريخيا يهدف إلى تسهيل التدريبات العسكرية المشتركة بين الجانبين وعبور القوات من قبل الطرفين، وصفه مسؤولون في الحلف بأنه ''مرحلة مهمة'' في التعاون بين العدوين السابقين في الحرب الباردة).
أحصى الباحث الإسرائيلي عوديد عيران، ما لا يقل عن أربعة إغراءات غربية حصلت عليها روسيا، خلال العقد الأخير، تروم تليين مواقف الرأي العام الروسي (نسبة كبيرة في المجتمع الروسي لا ترى نفسها جزءا أساسيا من العالم الغربي) وقبله صانع القرار الروسي من الغرب في شقه الأمريكي تحديدا، وجاءت كالتالي: انضمام روسيا إلى مجموعة الدول الثماني الأكثر تصنيعا وتأثيرا في العالم؛ التوقيع على اتفاقية التعاون المشترك مع حلف الناتو؛ إشراكها في الرباعية الدولية لإحلال التسوية في الشرق الأوسط، بجانب الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة؛ وأخيرا، طبيعة والثقل الوازن للمساعدات المالية الاقتصادية المقدمة لها من الدول الغربية. (جاء ذلك في تقرير استراتيجي مهم يحمل عنوان: ''رؤية إسرائيلية للسياسة الروسية وإمكانية التقارب معها''، والباحث للتذكير، سبق أن عمل سفيرا لإسرائيل في مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وخدم في سلك الدبلوماسية الخارجية، لأكثر من 30 عاما).
وأخيرا وليس آخرا، مطلوب العودة إلى بعض بنود مرسوم روسي وقَّع عليه الرئيس دميتري مدفيديف في آيار (مايو) 2009، تحت عنوان: ''استراتيجية الأمن القومي حتى عام 2020''، ونقرأ فيه بالحرف التأكيد على ''تحويل روسيا الاتحادية إلى دولة عالمية كبرى توجه جهودها نحو دعم الاستقرار الاستراتيجي وعلاقات الشراكة ذات المنفعة المتبادلة في ظروف العالم المتعدد الأقطاب''.
مطلوب أيضا تأمل أهم العناوين التي رَوّجت وثائق رسمية روسية أخيرا، بخصوص ''المخاطر والتهديدات المحيطة بروسيا''، وبناءً على تقارير استراتيجية وإخبارية، يمكن أن نلخصها في أربعة عناوين/ مخاطر: الإرهاب العالمي؛ الحركات الإسلامية ''الجهادية''، تهريب المخدرات من أفغانستان؛ ثم الهجرة غير الشرعية.
تأسيسا على هذه المقتضيات هذه المخاطر وطبيعة التفاعل معها، تُحدّد وثائق روسية رسمية، المصالح الاستراتيجية لموسكو على النحو التالي بشكل لا يقبل التأويل في منحين اثنين: منع سيطرة العناصر الجهادية الإسلامية على الجمهوريات السوفياتية السابقة؛ والمحافظة على استقرار هذه الجمهوريات؛ ولذلك يُجمع الخبراء في المجال العسكري على أن حدود الأمن الروسي تصل للحدود الجغرافية القديمة للاتحاد السوفياتي، تُخول لموسكو تثبيت التواجد العسكري في أنحاء مختلفة من الجمهوريات السوفياتية السابقة، حتى أن تحتفظ روسيا بقوات عسكرية على طول الحدود السوفياتية القديمة، تقدر بعشر قواعد ومحطات عسكرية، وعشرات عدة من آلاف الجنود، وما يقرب من 20 ألف تقني وفني عسكري.
نبدأ بملف ''الجهاديين''، في الجمهوريات الروسية على الخصوص، ولا يبدو أن عملية البرلمان الشيشاني الأخيرة ''ليوم الثلاثاء 19 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري''، التي انتهت بمصرع سبعة أعضاء، منهم ثلاثة من رجال الشرطة وأربعة من المقاتلين الذين حاولوا اقتحام مبنى البرلمان في العاصمة جروزني، ستكون الأخيرة في قلاقل ''الحركات الإسلامية ''الجهادية''.
منذ سنوات مضت، استبق الوزير الأول الروسي الحالي، والرئيس السابق فلاديمير بوتين، تكهنات صناع القرار في حلف ''الناتو''، بخصوص ''وضع مفهوم استراتيجي جديد، يجعل الحلف أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع التهديدات الجديدة، مثل الإرهاب، والجرائم الإلكترونية، والقرصنة''، على اعتبار أن ''التحديات الجديدة التي ظهرت في الآونة الأخيرة ـــ ومنها إدارة أزمة العنف السياسي، والإرهاب، والقرصنة البحرية، والهجرة، وإمدادات الطاقة، وملف المناخ ـــ تستوجب تحديد أسس جديدة للتعامل معها''، عندما أعطى موافقته على تواجد الجيش الأمريكي وسط قارة آسيا، انطلاقا من قناعته بشأن الحرب ضد الإرهاب المنطلق أساسا من أفغانستان؛ ولذلك رأى في تواجده مصلحة مشتركة لروسيا وأمريكا.
وحده ملف ''الجهاديين'' في الجمهوريات الروسية والقلاقل الطلبانية في أفغانستان، تخولان لروسيا الانخراط في مقتضيات الحرب شبه الكونية القائمة بين الإدارة الغربية وحلفائها والحركات الإسلامية ''الجهادية''.
نأتي لملف آخر، لا يقل أهمية وثقلا في ميزان القوى الاستراتيجية، ما دمنا نعيش زمن الطاقة النووية، فقد تأكد أخيرا، أن الصناعة النووية الروسية حقّقت أرباحا ضخمة من بناء المفاعلات النووية في البلدان النامية، مثل الهند والصين، وهي تحاول اليوم استكشاف فرص التحول إلى مورد رئيس لهذه المفاعلات في دول الاتحاد الأوروبي أيضا.
وبصرف النظر القسري على تداعيات كارثة مفاعل تشيرنوبل، فإن شركة ''روساتوم'' الحكومية الروسية، التي تعمل في مجال بناء المفاعلات النووية، تستعد لتقديم عرض لمشروعها الجديد الثاني في بلدان الاتحاد الأوروبي، وهو بناء محطة تيملين النووية في جمهورية التشيك، (تبلغ تكلفة المشروع نحو ثمانية مليارات دولار)، كما تقوم الشركة نفسها حاليا ببناء محطة أصغر في بلغاريا.
ليس هذا وحسب، يُمثل الروس اليوم أحد الموردين الرئيسِين لوقود اليورانيوم المنخفض التخصيب إلى الاتحاد الأوروبي، وتمد ذات الشركة أيضا سويسرا بكامل احتياجاتها من الوقود النووي، كما تمد فرنسا، أكبر مستهلك للوقود النووي في القارة، بـ 30 في المائة من احتياجات جميع مفاعلاتها النووية من اليورانيوم، ومن بين 60 مفاعلا يتم إنشاؤها حاليا في جميع أنحاء العالم، تقوم ''روساتوم'' ببناء 15 مفا علا وفقا لبيانات معهد الطاقة النووية، وهي مجموعة تجارية مقرها واشنطن! (وتقوم شركة تابعة لـ ''روساتوم'' بتوفير نحو 45 في المائة من الوقود النووي المستعمل في المحطات النووية الأمريكية. ويستخدم الوقود المصنع من القنابل النووية الروسية السابقة في توليد نحو 10 في المائة من الكهرباء المنتجة في الولايات المتحدة).
معطيات ميدانية صلبة تُبرر صدور قراءة تفاؤلية على لسان مارينا أليكسينكوف، المحللة في ''رينيسانس كابيتال''، أحد البنوك الاستثمارية في موسكو، مفادها أن ''روسيا لاعب كبير، وستتقدم بعروض في كل مناقصة، ومن المنتظر أن تذهب إلى كل مكان على الصعيد العالمي''.
ثمة آخر لا يقل أهمية في الحسابات الاستراتيجية سالفة الذكر، ويهم المنطقة العربية هذه المرة، وتحديدا دول الخليج العربي، (ونحن نترك جانبا الحضور الروسي الطاغي في صفقات الأسلحة الوازنة مع دول المغرب العربي، وخاصة مع الجزائر).
ولأن الحديث عن الخليج العربي في هكذا ملف يحيلنا مباشرة على ملف إغراءات الموارد الطبيعية الغنية التي تتميز بها هذه المنطقة، إضافة إلى تمتع دول الخليج بفرص اقتصادية كبيرة لا يمكن أن تغيب عنها روسيا، وفي هذه الجزئية تحديدا، لا يستقيم البتة الحديث عن تنافر بين روسيا والغرب في هذه المنطقة، إن لم نجزم بأن إغراءات الموارد الطبيعية تُحتّم تعاونا مشتركا بين الطرفين، بما يجعل من روسيا طرفا أساسيا في الحفاظ على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تجاوزت رغبتها بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي تلك السياسة المتبعة خلال الحقبة السوفياتية. (مطلوب الأخذ في عين الاعتبار لائحة من الفوارق الجلية بين الأهداف الاستراتيجية السوفياتية والروسية، حيث كان الاتحاد السوفياتي خلال العقود الأولى عقب اندلاع الحرب الباردة، يروم تثبيت أركانه في المناطق الموالية للوجود الغربي، من خلال التأثير السلبي على أداء الأنظمة، بخلاف السياسات الروسية القائمة اليوم، حيث يبدو الهدف الروسي المعلن رسميا على الأقل، يكمن في الحفاظ على الاستقرار السياسي في هذه المناطق).
بتعبير آخر، ترى موسكو أن رفع مستوى الصراع العربي الإسرائيلي إلى حدة أكبر، قد لا يكون مرضيا لها، ولا سيما في ظل تزايد التدخل الروسي لإيجاد حلول له، بعد بروز ''خارطة الطريق''، للوصول لتسوية للصراع له، كجزء من سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وبالتأكيد فإن هذا التدخل الروسي يمنحها دورا رغبت بالوصول إليه منذ زمن، متمثلا باعتراف دولي بموقعها المستقل في هذه المنطقة.
يبقى أمامنا مؤشر وازن هو الآخر، يُفسر ضمن المؤشرات السابقة طبعا، بعض مقدمات العودة القوية للدور الروسي في المنطقة، ذلك الخاص بالقلاقل النووية في إيران أحمدي نجاد، وهي القلاقل التي تقف بشكل كبير وراء الاتفاق الأخير الذي وقَّع عليه الثلاثي ساركوزي الفرنسي وميركيل الألمانية وميدفيديف الروسي، حيث يتبين أن التهديد النووي الإيراني أصبح مُغذيا لعوامل التقارب الأمني الروسي ـــ الأوروبي ـــ الأمريكي في آن، ويسهم على الخصوص، في الدفع بروسيا لأن تُصبح شريكا أمنيا استراتيجيا للاتحاد الأوروبي.
وتقاطعا مع مقتضيات الملف نفسه، كانت موسكو سباقة إلى الإعلان عن مبادرات تخدم الموقف الأمريكي والأوروبي من التهديد النووي الإيراني، عندما رفعت من دون شروط يد التأييد في مجلس الأمن لقرار العقوبات 1929 ضد إيران، ورفضت تسليمها منظومة صواريخ ''إس 300'' الضرورية لحماية منشآتها النووية.
ويبدو أن القرار الاتفاق الروسي الأخير مع فرنسا وألمانيا (قطبَي الاتحاد الأوروبي، والنواة الصلبة في حلف الناتو إلى جانب الولايات المتحدة)، يُترجم حسم موسكو في جدلية مؤرقة كانت تُميّز سلفا تعاملها مع الملف النووي الإيراني: فمن جهة، كان صناع القرار الأمني الروسي يعبرون عن رفض جلّي لإمكانية حيازة إيران للسلاح النووي، وأغلب الظن، بسبب إطلاعهم على مخاطر المشروع في شقه العسكري؛ ومن جهة ثانية، كان المشروع بوابة اقتصادية مغرية للجانب الروسي، بخصوص الاستفادة المباشرة من إغراءات الأبعاد الاقتصادية للمشروع، التي تتجسّد في حجم التجارة البينية بين روسيا وإيران، بما فيها المواد التسليحية، العلاقات الاقتصادية، وتورط عناصر روسية في تطوير البرنامج النووي الإيراني، لولا أن اتفاق الثلاثي الفرنسي والألماني والروسي الأخير، يكشف للجميع، حسم موسكو في مصير هذه الجدلية المؤرقة اقتصاديا وأمنيا وبالطبع، استراتيجيا.
جملة مؤشرات ميدانية إذاً، تختلط فيها حسابات الأمن والمال والاستراتيجية، تفسر أهم أسباب هذه العودة القوية للدب الروسي في مسرح الأحداث العالمية.