التبلد أمام المخالفات
استسهال الناس لذكر الجرائم حتى وصل الأمر إلى أن تذكر علانية بل وتنشر في الصحف يدعو لتساؤل مرير حول حجم الاستخفاف بهيبة القانون التي لم يعد كما يبدو أن لها فسحة من العيش بين ظهرانينا. ولو أن هناك فراغا تشريعيا، لكانت المطالبة الأولى هي بسن نظام يكافح تلك الجرائم، ولكن الحقيقة المرة أن تلك الجرائم لم تُسمَّ ''جرائم'' إلا لأنها جُرمت بموجب نصوص تشريعية، وعليه، فهناك أنظمة تم سنها من عشرات السنين ولكن الفرجة بتبلد يبدو أنها الحاكمة على الموقف فلا أحد يدري الكرة في مرمى من، أو ربما لا أحد يريد أن يسأل أين الكرة ما دامت العجلة سائرة والشمس تشرق من مشرقها. حالة مؤرقة تستدعي أن يتداعى لها سائر خلايا الجسد السعودي للاستفسار عن حالة الوهن القانوني التي نعيشها حتى أصبحت عبارة فوقية القانون وكأنها نكتة بلا طعم. هل لا بد من كارثة يموت فيها آلاف البشر لنتحرى عن الانحرافات؟ إلى متى وسياسة ''إطفاء الحرائق'' هي من يحكم تصرفاتنا؟
لدينا باقة من النصوص النظامية الكفيلة بتحريك الدعوى ضد منتهكي الأنظمة. فمثلا، نص نظام المرافعات الشرعية وبالتحديد في مادته الخامسة على مبدأ الاحتساب في إقامة الدعاوى. فألزم الجهات القضائية بقبول الدعوى من ثلاثة من المواطنين على الأقل في كل ما فيه مصلحة عامة، شريطة ألا تكون في البلد جهة رسمية مسؤولة عن تلك المصلحة. كما نص نظام هيئة التحقيق والادعاء العام في مادته الثالثة على أن تختص هيئة التحقيق والادعاء العام بالتحقيق في الجرائم و''التصرف في التحقيق برفع الدعوى'' أو حفظها في مادته الثالثة. كما أن المادة الثامنة من نظام الإجراءات الجزائية أعطت هيئة التحقيق والادعاء العام حق رفع الدعوى الجزائية بمواجهة المتهمين، متى ما رأت الهيئة أن في ذلك مصلحة عامة. هذا علاوة على أن الصلاحيات المتناهية لكثير من الجهات الحكومية لإيقاف أي خلل ينتابها في متناول يديها تنتظر فقط من يحركها. ومع هذا، تقف بعض الجهات الحكومية متسمرة بشلل رباعي أمام المخالفات التي تتقاطع مع مهامها الرئيسية وكأنها ليست معنية بها.
نحتاج إلى غربلة نظامية تعيد للقانون هيبته وتقول بكل وضوح إن المملكة العربية السعودية دولة قانون يعلو فوق الجميع ولا أحد يعلو فوقه. التفاعل البارد مع المخالفات يولد مزيدا من المخالفين وينسخ مزيدا من الفسدة، حتى نمسخ جميعا إلى صور متشابهة متبلدة لا تأبه إلا بنظام الانحراف لأنه لا سبيل إلى الحياة إلا بتلك الصورة القاتمة المتاجرة ـــ اللاوجلة من مخالفة الأنظمة. صورة فيها هدر وفيها تشتيت لقدرات البلد وكفاءته البشرية. والله الحافظ.