محنة منجم سان خوسيه وأحكام العمل في المناجم والمحاجر
في يوم الأربعاء 5/11/1431هـ الموافق 13/10/2010، شاهد العالم من خلال شاشات التلفاز وتابع بإعجاب وتأثر شديدين عملية إنقاذ 33 عاملا ظلوا لأكثر من شهرين محاصرين في باطن الأرض بعمق يقدر بنحو 700 متر في منجم نحاس يسمى منجم سان خوسيه في صحراء أتاكاما في تشيلي. وحضر رئيس تشيلي الملياردير سباستيان بيتيرا بنفسه ومع زوجته إلى منطقة المنجم ليكون في استقبال العمال عند خروجهم الواحد تلو الآخر من قاع المنجم، وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يحتضنهم. ولفت انتباه بعض المراقبين أن الرئيس التشيلي آثر أن يتقدم عليه أفراد أسرة كل عامل في استقبال العامل عند خروجه من قاع المنجم؛ ليعطيهم الفرصة الكافية لعناقه والحفاوة به، ثم بعد ذلك يتجه إلى الرئيس الذي يعانقه في حفاوة بالغة. واستحق هؤلاء العمال وصف (الأبطال)؛ لأنهم استطاعوا أن يصمدوا طوال مدة احتجازهم في باطن الأرض، التي تعتبر مدة قياسية، ولم يفقدوا الأمل في النجاة، بل احتفلوا في 18/9/2010، وهم في قاع المنجم بالذكرى الـ 200 لاستقلال بلادهم. وخرج العمال تباعا من قاع المنجم في أقل من 22 ساعة بواسطة كبسولة طليت بألوان علم تشيلي. والكبسولة أنبوب يبلغ عرضه 45 سنتيمترا ومزودة بالأكسجين ووسائل الاتصال، صممتها ونفذتها القوات البحرية التشيلية للقيام برحلة آمنة تنقل خلالها العمال العالقين خلال ممر ضيق تم حفره لغرض الإنقاذ لمسافة 622 مترا تحت الأرض. واحتفلت تشيلي بنجاح عملية الإنقاذ احتفالا شعبيا كبيرا، وقال الرئيس التشيلي: ''إن هذه العملية أظهرت الروح الحقيقية لشعب تشيلي''، مضيفا: ''إن العمال أظهروا أن تشيلي موحدة، وأننا قادرون على فعل أشياء عظيمة''، وقدر الرئيس تشيلي تكلفة عملية الإنقاذ بمبلغ يراوح بين عشرة و20 مليون دولار.
ولا شك أن حكومة تشيلي استحقت الإشادة والتقدير لاهتمامها بحياة هؤلاء العمال البسطاء وبذلها الجهود والإمكانات اللازمة لإنقاذهم من الهلاك، وقد ضربت بذلك مثالا رائعا على أهمية الحفاظ على حياة الإنسان التي هي نعمة من الله تعالى. وصدق من قال: ''إن تشيلي في عام 2010 غسلت العار الذي أصابها عام 1973 عندما أطاح الجنرال بينوشيه بالرئيس المنتخب سيلفادور الليندي في انقلاب دموي دبرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأدى إلى قتل الرئيس المذكور ومئات من المواطنين وفرض على البلاد حكما عسكريا غاشما لنحو عقدين من الزمان''.
وبمناسبة هذا الحدث التاريخي وجدت من المناسب أن أسلط بعض الضوء على أحكام العمل في المناجم والمحاجر المنصوص عليها في نظام العمل السعودي، حيث حددت مواد الباب الثاني عشر من هذا النظام (المواد من 185 إلى 193) قواعد العمل في المناجم والمحاجر. وقبل أن أوضح مضامين هذه المواد فإنه لبيان أهمية هذا القطاع الاقتصادي تحسن الإشارة إلى أن الصحف المحلية نشرت في أعدادها الصادرة يوم الأحد 2/11/1431هـ الموافق 10/10/2010 مقتطفات من تقرير أصدرته وزارة البترول والثروة المعدنية، ذكر أن ''الوزارة أصدرت نحو 1371 رخصة لممارسة الأنشطة التعدينية في السعودية، إضافة إلى 203 رخص كشف واستطلاع''. وأشار التقرير إلى حدوث نمو مطرد خلال 2009؛ ما انعكس بشكل جيد على استغلال الثروات المعدنية التي تزخر بها البلاد. وأوضحت الوزارة في تقريرها أن الرخص التعدينية توزعت إلى 26 رخصة محجر مواد خام لاستغلال خامات الأسمنت و14 رخصة تعدين لاستغلال الذهب والفضة والنحاس والزنك والحديد والفوسفات والبريدوت والبوكسايت، و99 رخصة منجم صغير ومحجر مواد خام لاستغلال خامات الملح والصلصال والرمل الزجاجي والبارايت والفلدسبار والبازلت والحجر الجيري والرخام والحديد والدلومايت الجيري والجبس والطين والحجر الرملي والجابرو والبوزلان والحديد منخفض النسبة.
كما شملت 1232 رخصة محجر مواد بناء لاستغلال أحجار الزينة مثل كتل الجرانيت والرخام ومواد الكسارات ومواد البناء الأخرى. وقدر التقرير إيرادات الشركات العاملة في قطاع التعدين التي تعتمد صناعتها بشكل رئيس على الخامات المعدنية المستخرجة من أراضي المملكة بما يقارب 15.1 مليار ريال نتيجة استغلال ما يزيد على 344 مليون طن من الخامات المعدنية المحلية، فيما بلغت أرباحها 5.82 مليارات ريال. وأشار التقرير إلى أن الوزارة أصدرت 203 رخص كشف واستطلاع لنحو 204 شركات تعدين سعودية وأجنبية للكشف واستطلاع عن خامات الذهب والمعادن الفلزية والصناعية في جميع مناطق المملكة. في حين بلغ إجمالي مساحات المواقع التعدينية الممنوحة للمستثمرين 71 ألف كيلومترمربع.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الأحكام النظامية بشأن العمل في المناجم والمحاجر، ونبدأ بالمادة 185 من نظام العمل التي حددت المقصود من العمل في المناجم والمحاجر على النحو التالي:
(يقصد بالعمل في المناجم والمحاجر الآتي:
1- العمليات الخاصة بالبحث أو الكشف عن المواد المعدنية، بما في ذلك الأحجار الكريمة أو استخراجها أو تصنيعها في المنطقة الصادر عنها الترخيص، سواء أكانت المعادن صلبة أم سائلة.
2- العمليات الخاصة باستخراج رواسب المواد المعدنية الموجودة على سطح الأرض أو في باطنها أو تركيزها أو تصنيعها في منطقة الترخيص.
3- ما يلحق بالعمليات المشار إليها في الفقرتين 1 و2 من هذه المادة من أعمال البناء وإقامة التركيبات والأجهزة).
ويتضح من هذا التعريف، أن مفهوم المناجم لا يقتصر على مناجم المواد المعدنية الصلبة كالذهب والفضة والنحاس والحديد، وإنما يشمل أيضا مكامن المعادن السائلة كالنفط والغاز. وبالتالي فإن أحكام الباب الثاني عشر من نظام العمل تنطبق أيضا على العاملين في مجال الصناعة النفطية.
ونظرا إلى أن معظم المناجم والمحاجر تقع في مناطق نائية أو بعيدة عن العمران، وأن العمل فيها يتسم بالعناء والمشقة، فقد حظرت المادة 186 من النظام تشغيل أي شخص في المنجم أو المحجر لم يتم الـ 18 من العمر، كما منعت تشغيل المرأة أيا كانت سنها في أي منجم أو محجر.
وللتأكد من القدرة الصحية لمن يريد العمل في المناجم والمحاجر فقد قررت المادة 187 من النظام أنه (لا يجوز السماح لأي شخص بالعمل في العمليات التي يسري عليها هذا الباب إلا بعد إجراء فحص طبي كامل عليه، وثبوت لياقته الصحية للعمل المطلوب ويجب إعادة هذا الفحص دوريا ولا يجوز تحميل العامل أي نفقة مقابل الفحوص الطبية اللازمة. ويحدد الوزير بقرار منه الأوضاع والشروط والمدد التي يجب الالتزام بها).
وطبقا للمادة 98 من نظام العمل، فإن القاعدة العامة بشأن عدد ساعات العمل في اليوم الواحد، إذا كان صاحب العمل يعتمد المعيار اليومي، ينبغي ألا تزيد على ثماني ساعات في اليوم الواحد، لكن المادة 188 من النظام راعت ظروف العمل القاسية في المناجم والمحاجر فقررت أن (لا تزيد ساعات العمل الفعلية التي يمضيها العامل تحت سطح الأرض على سبع ساعات في اليوم، ولا يجوز إبقاء العامل في مكان العمل سواء فوق سطح الأرض أو في باطنها مدة تزيد على عشر ساعات في اليوم. وإذا كان العمل في باطن الأرض فتشمل هذه المدة الوقت الذي يستغرقه العامل للوصول من سطح الأرض والوقت الذي يستغرقه للعودة من باطن الأرض إلى سطحها).
ونظرا إلى أن طبيعة عمليات مناجم ومحاجر المعادن الصلبة ومكامن النفط والغاز تتسم بالحساسية والخطورة التي تستوجب إبعادها عن أي تطفل أو تدخل ضار من الغير فقد قررت المادة 189 من النظام أنه (يحظر دخول أماكن العمل وملحقاتها على غير العاملين فيها وعلى غير المكلفين بالتفتيش على المنجم أو المحجر، والأشخاص الذين يحملون إذنا من الجهة المختصة).
وتنظيما لمراقبة الدخول إلى المناجم والمحاجر والخروج منها فقد قررت المادة 190 من النظام أنه (على صاحب العمل أن يعد سجلا خاصا لقيد العمال وحصرهم قبل دخولهم إلى أماكن العمل وعند خروجهم منها).
كما أوجبت المادة 191 على صاحب العمل أو المدير المسؤول أن يضع لائحة بالأوامر والتعليمات الخاصة بالسلامة العامة. ومن أجل توفير وسائل الإسعاف والإنقاذ من مخاطر العمل فقد قررت المادة 192 أن (على صاحب العمل إنشاء نقطة إنقاذ قريبة من مكان العمل مجهزة بأدوات الإنقاذ والإسعافات الضرورية، وأن يكون بهذه النقطة وسيلة اتصال مناسبة، بحيث تصلح للاستعانة بها في الحال، وعليه تعيين عامل فني مدرب للإشراف على عمليات الإنقاذ والإسعافات الأولية).
كما نصت المادة 193 على أنه (مع عدم الإخلال بحكم المادة الثانية والأربعين بعد المائة من هذا النظام على صاحب العمل أن يعدّ في كل منجم أو محجر يشتغل فيه خمسون عاملا مكانا مناسبا يحتوي على غرفة مجهزة بوسائل الإنقاذ والإسعافات الأولية، وأخرى للتمريض، فضلا عن غرفة أو أكثر لتغيير الملابس. أما في المناجم والمحاجر التي يقل عدد العمال في كل منها عن خمسين عاملا وتقع في دائرة قطرها عشرون كيلومترا فيجوز لصاحب العمل أن يشترك في إنشاء مكان للإنقاذ والإسعاف في مكان وسط، أو ينشئ مكانا للإنقاذ والإسعاف مستقلا. وللوزير تحديد وسائل الإنقاذ والإسعاف وتدابير الوقاية والحماية في المناجم والمحاجر، وكذلك مسؤوليات أصحاب العمل وحقوق العمال وواجباتهم).
علما أن المادة 142 من النظام وضعت التزامات عامة على عاتق صاحب العمل بشأن الإسعافات الطبية، حيث ألزمت صاحب العمل أن يعد خزانة أو أكثر للإسعافات الطبية، مزودة بالأدوية وغيرها، ما يلزم للإسعافات الطبية الأولية. وتحدد اللائحة ما يجب أن تحتويه هذه الخزانة من وسائل الإسعافات الأولية وعددها، وكميات الأدوية، وكذلك تنظيم وسائل حفظها وشروط من يقوم بمهمة الإسعافات ومستواه.
وبعد هذا الاستعراض للأحكام النظامية سالفة الذكر، أتساءل: هل جهزت وزارة العمل نفسها بجهاز قادر على التفتيش على المناجم والمحاجر المنتشرة في أنحاء متفرقة من المملكة؛ للتأكد من تطبيق معايير السلامة المتعارف عليها دوليا وتوفير وسائل الإنقاذ؟.. أرجو ذلك.