الرأسمالية .. قادت العالم للنمو .. ثم الخراب!
المكتب الدولي للعمل أصدر أخيرا تقريرا ذكر فيه أن عدد العاطلين عن العمل في العالم يبلغ الآن 213 مليون عاطل وحذر التقرير من أزمات اجتماعية إذا استمرت برامج التقشف. طبعا هذا المعلن وما خفي أعظم، وكما هو متوقع .. تداعيات الأزمة المالية العالمية بدأت تنتقل إلى المشهدين الاجتماعي والسياسي، فالهزة كانت عنيفة، وما يحدث الآن من قلاقل أو مشكلات، أو بروز مواقف وأفكار سياسية جديدة متطرفة أشبه بالهزات الارتدادية التي تعقب هزات الزلازل العنيفة، والأوضاع السلبية مرشحة لموجة جديدة من التصعيد في كثير من البلدان ولم تعد تنفع العلاجات التقليدية للأزمات الاقتصادية التي قادت إلى هذه المشكلة الكبرى، بالذات علاجات صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.
النظام الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه الرأسمالية بمبادئها وتصوراتها وآلياتها الأساسية، هذا النظام يدخل مرحلة الأزمة الحقيقية مع نفسه، كان له الدور المهم في حفز الإبداعات والمبادرات الفردية في القرون الماضية، إلا أن مبدأ الرأسمالية القائم على عقيدة النمو المستمر يُخشى أن يقود البشرية إلى كارثة حقيقية، لأن النمو يتطلب الموارد المتجددة، والآن كل الدول والتكتلات والأفراد تريد أن تنمو في مدخراتها وثرواتها وأرباحها بشكل مستدام مهما كان الثمن على الأفراد، الدول، والشعوب، بل على الكون كله.
عقيدة النمو هذه التي تلتقي مع نزعة الإنسانية الفطرية إلى التملك والاحتكار والطمع، تقودنا إلى دفع الثمن غاليا، والأزمة العالمية التي هي الوليد الشرعي لنمو الرأسمالية إلى درجة التوحش، توجد الآن ملايين العاطلين عن العمل وتضع شعوب ودول العالم أمام مستقبل غامض مدمّر، وتضع العالم إزاء كوارث بيئية محتملة بعد التدمير المنظم للغابات ومصادر المياه وتحويل مخلفات الصناعة إلى الأنهار والبحار.
إن دولة عظمى مثل الولايات المتحدة مرشحة لأزمات سياسية قادمة، وتوسع التأييد لأفكار وتصورات اليمين المتطرف يقود أمريكا لهيمنة أصولية مسيحية خطيرة عليها وعلى العالم، وستكون أخطر من (فكر القاعدة) وإمكاناتها، فإذا تطورت الأزمة المالية ووصل الدين الحكومي إلى مراحل حرجة فإن الأصولية المسيحية ستتطور إلى فاشية ديكتاتورية، كما حصل في أوروبا، فالإجراءات الفاشية جاءت على أمواج من رحم الديمقراطية مدفوعة بالأزمات الاقتصادية الخانقة.
والفاشية في أمريكا ستكون الأخطر على العالم إذا وصلت إلى الحكم لأنها تملك ترسانة عسكرية قادرة على نشر الدمار وإشعال الحروب، والأصولية المسيحية بشكلها الحقيقي الذي مثله المحافظون الجدد الذين حكموا أمريكا إبان فترة بوش الابن، قادت العالم إلى نزاعات مسلحة خطيرة في باكستان والعراق وأفغانستان وغيرها من المناطق في العالم، وهذه التدخلات الأمريكية أثرت في الصورة الأخلاقية والحضارية لأمريكا فلم تعد أمريكا زعيمة العالم الحر، بل قائدة القلاقل والمشكلات في العالم!
الأزمة المالية العالمية ربما بروزها في هذا الوقت فرصة إيجابية للعالم، فانكشاف الخلل البنيوي الأساسي في النظام الرأسمالي ربما يساعد البشرية على كبح النظام الرأسمالي وضبطه والحد من توحشه عبر إدخال آليات جديدة أكثر أخلاقية وإنسانية، فالنظام الرأسمالي (راكم الثروات في أيدي القلة) من الأفراد والشعوب وأبعد الحكومات عن القيام بدورها الأساسي تجاه ضمان الخدمات التي تعد من أساسيات حقوق الإنسان ومتطلبات التنمية المستدامة، ففي علم الاقتصاد المفتوح يترك الناس تواجه ظروفها في عالم مفتوح لا تتوافر فيه الآليات المثالية للمنافسة.
إنه عالم مخيف .. ولكن ما زال فيه الكثير من العقلاء الذين يحلمون بعالم تتكامل فيه البشرية .. لا تتصارع.