أرسل حكيماً...
" قبل عدة سنوات سَعِدتُ باستضافة الدكتور دويتش عندما كان مديراً لوكالة المخابرات المركزية "The CIA". في تلك الزيارة كانت محادثاتنا بشكل متكتم، والتقى المسؤولين بشكل متكتم، ثم غادر بشكل متكتم أيضاً. لذا عندما دعاني لزيارته هنا في مدينة كامبردج كنت أحسب أنني سأعامل بالمعاملة نفسها من التكتم. لكن، واحسرتاه، ها أنا أجد نفسي أمام الملأ ليس فقط لإلقاء كلمة بينهم، بل أيضاً للإجابة على كل ما يطرحونه من تساؤلات، يا لها من معاملة بالمثل! وشكراً لك يا دكتور دويتش على ذلك".
هكذا استهل الأمير تركي الفيصل سفير خادم الحرمين الشريفين في الولايات المتحدة الأمريكية بتلك المداعبة اللطيفة محاضرته التي ألقاها يوم الخميس الموافق للسادس عشر من شهر شباط (فبراير) الجاري في مركز الدراسات الدولية بجامعة إم آي تي. MIT بدعوة من أحد أساتذتها المرموقين الدكتور جون دويتش John Deutch. كان عنوان المحاضرة "المملكة العربية السعودية في الأسرة الدولية "، وتناول فيها مسيرة المملكة خلال الستين عاماً الماضية في النهوض بمواطنيها ومستوى معيشتهم من خلال الإنفاق السخي على التعليم وبرامج التنمية الشاملة، وأيضاً إسهاماتها المتواصلة في استقرار الاقتصاد العالمي والأمن والسلام بين الشعوب. لقد كانت محاضرة ناجحة بكل المقاييس إذ امتلأت أرجاء القاعة بالمئات، ما اضطر بعضهم للانتظار خارجها أو الجلوس أرضاً. كما كان هناك حضور ملحوظ لعدد من قيادات الجامعة والهامات الأكاديمية البارزة فيها. ولم يقتصر الحضور المميز على الوسط الأكاديمي فحسب، بل شمل أيضاً نخبا متعددة من مدينة بوسطن وضواحيها. بالطبع هناك عوامل عدة تضافرت لنجاح تلك المحاضرة كلها ترتبط إلى حد بعيد بالمحاضر واختياراته للموضوع والزمان والمكان.
منذ السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، والتي شهد فيها العالم أزمة خانقة في إمدادات النفط، والحديث عن المملكة العربية السعودية يُشكل موضوعاً لافتاً للاهتمام في المحافل الدولية وبالذات في الأوساط الغربية. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م واستفحال ظاهرة الإرهاب والتطرف عبر القارات، والارتفاع الحاد في أسعار النفط لتدفع بهذا الاهتمام إلى مكانة رئيسة بين القضايا التي يتناولها الرأي العام في تلك المجتمعات. ومن ثم كان اختيار الأمير تركي الفيصل لمحاور محاضرته موفقاً عندما عرض رؤية المملكة للمساهمة في معالجة تلك الملفات انطلاقاً من مكانتها مهداً للإسلام، وما يحمله هذا الدين من تسامح وخير لجميع الناس. وأعاد إلى ذاكرة الحاضرين أن الحضارة الإسلامية قدمت الكثير من العلماء الذين شاركوا في بناء المعرفة الإنسانية كالرياضيات والعلوم منهم من نُقشت أسماؤهم في قاعات الجامعة التي يتحدثون في رحابها عرفاناً بفضلهم.
ثم انتقل الأمير في محاضرته إلى الحديث عن الإصلاحات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بخطى متدرجة وهادئة تراعي بيئة المجتمع السعودي وتطلعاته. وفي موضوع الطاقة كان التركيز على الشفافية التي تمارسها المملكة في سياستها النفطية وحرصها على التنسيق مع الدول المستهلكة للمحافظة على استقرار السوق، ولديها سجل طويل يشهد على ذلك.
أما عنصر الزمن في نجاح تلك المحاضرة فلم يكن مرتبطاً فقط بقضايا الساعة على الساحة الدولية والتي سبقت الإشارة إليها بل شكل فرصة جيدة للحديث عن موضوع التعليم والتعاون المشترك بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال. وفي هذا المحور من المحاضرة الذي حظي بالجزء الأكبر منها استمع الحضور إلى مقارنات مذهلة عن برامج التعليم في المملكة اليوم وما كانت عليه قبل ستين عاماً، وقد لفت انتباههم البرنامج الطموح الذي أطلقه الملك عبد الله بن عبد العزيز لابتعاث نحو عشرة آلاف طالب للدراسة في الخارج على حساب الدولة وما يقدمه هذا البرنامج من فرص للتواصل الحضاري وبناء جسور جديدة مع الآخرين، لاسيما المجتمع الأمريكي. كما تحدث الأمير تركي في محاضرته عن الدور الجديد للقطاع الخاص في المملكة في المساهمة في إنشاء وتشغيل الجامعات والكليات، وضرب مثلاً على ذلك مشروع جامعة الفيصل الذي ترعاه "مؤسسة الملك فيصل الخيرية"، والتي ستبدأ في استقبال طلابها في عام 2007م بإذن الله.
أما اختيار جامعة MIT لإلقاء تلك المحاضرة عن المملكة فقد كان صائباً. إذ إن هذه الجامعة تقف في الصف الأول بين المراكز العلمية الراقية في العالم. وهي مؤسسة تعليمية خاصة مستقلة لا تستهدف الربح، عُرف عنها تشجيع الحوار في الموضوعات والآفاق الجديدة في العلوم والتقنية، وكذلك القضايا التي تخدم قطاع الأعمال. ولعل أحد الملامح المميزة للجامعة تركيزها على نشر المعرفة، إذ شاركت في تأسيس مرافق بحث وجامعات في كثير من أنحاء العالم ومعظمها على غرار مختبر الأبحاث الشهير في الجامعة المسمى (ميديا لاب ـ Media Lab)، وقد أتاحت الجامعة في السنوات الأخيرة، في بادرة تعد الأولى من نوعها، جميع المواد التي تدرس في مناهجها ليطلع عليها من يشاء في موقعها الإلكتروني على شبكة المعلومات دونم مقابل مادي، الأمر الذي يعد مبادرة عملاقة في التشجيع على نشر المعرفة والتعليم لجميع بني البشر.
سألت بعض الذين استمعوا للمحاضرة وشاركوا في الحوار المفتوح الذي أعقبها.. ما رأيكم؟ قالوا : A+ (تقدير ممتاز). وتابعت السؤال: لماذا؟ كان الجواب أن السفير نجح في كسب عدد كبير من الأصدقاء للمملكة من بين أولئك النخبة وقادة المستقبل في الولايات المتحدة الأمريكية وأوطان أخرى، والأهم من ذلك أنهم حملوا معهم من المحاضرة صورة عن المملكة بأنها دولة يُنتظر منها الكثير.. أو كما قالوا بلسانهم:
" He left them with high expectations of Saudi Arabia".