المستشار الميت .. !
كلما ازدادت قوتك تعرضت لاختبار الاختيار بين البدائل، ثم يصبح البديل المختار قرارا، وبيئة اتخاذ القرار تعاني شحا أو كثرة المعلومات وتضاربها أو عدم التأكد من نتائجها، ولا سيما إذا كنت من أولي العزم من القادة ''الاستراتيجيين''، حين تُمطَر بكم هائل من القضايا في زمن محدد؛ لذا يسعى هؤلاء القادة للاستعانة بخبراء ومستشارين دائمين أو غير متفرغين أو بيوت خبرة ''تفكير'' وطنية أو دولية، وهذا فعل حسن؛ فالله تعالى يقول: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) سورة الشورى، آية 38. والنبي الهادي البشير ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يقول: ''ما خاب من استشار وما ندم من استخار''، رواه الطبراني، والقائد الحكيم ليس بالقائد الأذكى بالضرورة، بل هو القائد القادر على اختيار عقول البشر لغرض اختيار القرار الأفضل له؛ فالناس لا يهمها مَنْ صَنَع القرار، بل مَن يتحمل مخاطرة ''مسؤولية'' القرار، وإلا لكان المستشارون ''الصانع'' هم أعظم الزعماء، وهذا محال بالاستقراء التاريخي، قال علي بن أبي طالب ـــ رضي الله عنه: ''من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها عقولها''، الشاهد .. هذا فعل حسن، كما ذكرت، ويبقى التحدي الثاني والأكبر هو: كيف تختار المستشار؟ ومتى يكون المستشار صادقا أو مضللا؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة. لا ريب أن القوي ليس كالضعيف، فالضعيف يتمتع بميزة لا يتمتع بها القوي، وهي أن الناس صادقة في سلوكهم معه، فإن ابتسم أحدٌ له فهو راضٍ عنه، وإن تمعرّ وجه فهو غاضب منه، وإن أعطاه فهو يعطيه من القلب، وإن أخذ منه شيئا فهو يأخذ ما يدعي أنه يستحقه فيستوفي حقه، ثم يأمن غيلته وغدره، بينما القوي لا ينتفع بتلك المزايا؛ عليه فقد فهمنا أهمية التحدي الذي يواجه القائد القوي، وإليك التدابير التي تمكنك من التغلب على تلك التحديات، وهي كما يلي:
1) إياك.. ثم إياك أن تستشير الدنيء ''رخيص النفس''؛ فهو للخيانة أقرب فإما يغلّب مصلحته على مصلحتك، أو يغلّب مصلحتك العاجلة على الآجلة فتكسب الآن وتخسر غدا، أو يغلّب مصلحتك في الدنيا على حساب الآخرة مرفودا بالعجلة التي طبع عليها البشر، قال تعالى: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) سورة القيامة، آيتَي 20، 21.
2) المستشار بشر يخضع للتبدل والتحول والتغيّر، فإذا كان إيمانه مع ربه كذلك حين يقول المصطفى ـــ صلى الله عليه وسلم: ''القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا'' أخرجه الترمذي وابن ماجه، فهو معك أيها القائد من باب أولى، فإن بقاء الحال من المحال؛ ولذا لا تكن أسير الرأي الواحد البتة، فنوّع من الآراء؛ كي تستفز عقول من حولك بعضهم البعض فيصدقوا لك حين يعلمون أن هناك رأيا آخر فتأمن الوقوع في المحذور حين يتبدل المستشار فتفوز، فبيضك لم يكن في سلة واحدة.
3) شاور عدوك واستطلع رأيه دون أن يعلم؛ فهو أكثر الناس معرفة بعيوبك وصادق في عداوته فيري ويتكلم بما لا يتكلم به المحيطون بك، فعين السخط تبدي المساوئ وعين الرضا تتجاوز عن العيب أو تحجم منه.
4) شاور الآمن والشبعان؛ فالخائف يؤثر السلامة فإما يسكت عن قول الحق أو يورّي بالحق من بعيد دون فصاحة، أما غير الشبعان فعينه عليك وعينه الأخرى على المال وإذا انشغل بتحصيله؛ فقد نور بصيرته وقديح روحه فيضعف الرأي، قال زياد لحاجبه عجلان: أدخل علىّ رجلا عاقلا حتى أشاوره في بعض أمري! فقال: لا أعرف من تعني! فقال: إن العاقل لا يخفى في شكله وكلامه وهيئته! قال: فخرج فلقي رجلا بهيا حسن الوجه، مريد القامة؛ فقال له: أدخل! فدخل! فقال له زياد: إني أريد مشاورتك في أمر! فقال: إني جائع ولا رأي لجائع! فقال: أحضروا له الطعام! فلما قضى حاجته منه، قال له هات! فقال: إني حاقن ولا رأي لحاقن! فقال يا عجلان! أدخله المتوضأ، فلما خرج سأله عن أمره فما قال له شيئا إلا وأحسن الجواب عنه''. كما عليك أن تكرم المستشار فيزداد وفاؤه، ولا سيما بعد كل رأي حسن أتى بثماره، على أن تبلغه بحصرم رأيه إذا خاب دون تأنيب أو توبيخ فتزداد تجربته ويقدم على الرأي مرة تلو المرة دون التفكير في العقوبة.
5) لا تشاور القريب جدا فغالبا يكون جزءا من اللعبة، سواء علمت أو لم تعلم، كما أن شدة القرب تحجب الرؤية، ولا تشاور البعيد جدا؛ فغالبا يكون بعيدا عن فهم التاريخ وتعقيد نفسيات الناس وتقدير الآثار والعواقب ويحتاج إلى الشرح وسيكون أسير رأي من يشرح له بالمحصلة النهائية؛ ولذا عليك بالمستشار القريب البعيد فهو ليس جزءا من اللعبة وليس بعيدا عن اللعبة، وعندها غالبا ما يكون رأيه منصفا وخلاقا.
6) إذا طلبت المشورة فلا تعطِ رأيك أيها القائد سلفا؛ لأن بعض المستشارين إما يضعون أنفسهم مكانك فيتحدثون بلسانك وعندها لن يأتوا بشيء جديد أو يعلمون يقينا أنك صاحب هوى وميل لجغرافيا أو لتاريخ من البشر أو ذوق خاص أو آراء تتحدث بإعجاب بها وإذا ما خالفك المستشار الرأي فقد الدنيا والآخرة ولذا يجاريك.
7) نوّع في مشارب ''ثقافة'' مستشاريك وتخصصاتهم العلمية أو مصادر تلقي علومهم والتنويع يمتد لرأي الشباب والمرأة والوطنيين والأجانب والأقلية والأكثرية ما يمكّنك من الحصول على الرأي بأبعاده المختلفة مع إعطائك توقعا مبكرا عن بيئة التطبيق والتغذية الراجعة لاحقا.
8) غيّر مستشاريك بعد فترة وأخرى؛ ذلك لأن الإلف والعادة تميت الإبداع والابتكار والتفكير، ويتحول المستشار إلى موظف محترف ومطبق ذي مهارة عالية بسبب حجم المشكلات والحلول التي تعرَّف عليها؛ ولذا عليك أن تنقله عندها إلى بيروقراطي ''إداري''، قيادي هرمي، أو أن تسمح له بين حين وآخر بأن يبعد عنك، ثم يجدد نفسه بالقراءة والاحتكاك والحوار وحضور البرامج التدريبية أو المؤتمرات والاسترخاء والتأمل والتفكر والتدبر، ثم العودة من جديد.
9) شاور كل مستشار على حدة، فالشورى الجماعية من خلال اللجان أو ورش العمل أو اللقاء الجماعي الموسع قد يدفع بالبعض؛ بسبب التنافس والغيرة والحسد التي قليل من الناس يسلم منها، بأن يسقط رأي قرينه؛ خوفا من علو كعبه حتى لو أضر بالمصلحة العامة، ثم يمكنك جمعهم لاحقا كي ما تتلاقح العقول بعدما أفرغت ما في جعبتها.
10) إن كثرة الشورى لا تقل سوءا عن قلتها فالأولى تعبير عن التردد وضعف شخصية القائد وتشكيك بقوله ما يؤدي إلى فتور الهمم وخبو المشاعر قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) سورة آل عمران آية 159. ومهما فعلت فلن تسلم من المخاطرة والنبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ما كان له ذلك قال تعالى: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) سورة الأعراف، آية 188.
11) إن الاستشارة عملية تحتاج إلى تخطيط وتنظيم وتنفيذ وإشراف ورقابة، ومنها: أن تخطط لأهداف الاستشارة بوضوح ''توضيح المهمة''، وأن تحدد الزمان، مع تزويد المستشار بمعلومات يقرأها قبلا، مع اختيار أفضل من ينفع لهذه المهمة بالتحديد، فقد انتهى عصر المستشار الفيلسوف ''السوبر مان'' الذي يفهم في كل شيء ويجيبك عن كل شيء، كما عليك أن تختار مديرا للنقاش، قادرا على توزيع الوقت وفَهْم نفسيات الخبراء واستخراج أفضل ما لديهم، بطرح الأسئلة الذكية والإنصات بعمق وتقديم الثناء والربط بين محاور النقاش للخلوص بالنتائج، مع سكرتارية كفؤ التنظيم والتوثيق، وكم من مرة دعيت للنقاش واكتشفت سوء اختيار المدير الذي أهدر وقت الجميع بعد أن أعطانا درسا عظيما عن ذكائه الخارق وألمعيتة المشهودة، ثم قام الجميع مغفورا لهم، وقد تمت الشورى والحمد لله رب العالمين.
12) أيها القائد لقد بذلت الأسباب العقلية في الحصول على أفضل المستشارين وما لديهم، وبقي عليك بذل الأسباب الشرعية وهي الاستخارة بقولك: عن جابر ـــ رضي الله عنه ـــ قال: كان رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: ''إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري''، أو قال: ''عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري'' أو قال: ''عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به'' قال ''ويسمّي حاجته'': رواه البخاري.
13) بعد اتخاذك القرار اصبر قليلا من الزمن إذا كان ذلك بالإمكان؛ طمعا في التأكد أن الرأي الذي توصلت إليه لم يكن خاضعا لضغط مقصود عليك أو تضليل قد لا تدركه إلا بعد أن تهدأ إن كنت غاضبا''، ردة فعل ''وإن استطعت أن تجعل التنفيذ تدريجيا أو جزئيا بما يمكنك من اكتشاف عيوب التطبيق فحسنا تفعل.
14) لا تهمل أي رأي حتى لو اتخذت رأيا وصنعت منه قرارا، بل أبقى على الآراء الأخرى كبدائل ''الخطة ب'' ففي حالة وقوع الأسوأ فيمكنك استخدام تلك الآراء، حينها تكون جاهزا أيضا للتطبيق بعد إجراء تعديل محدود.
15) شاور القيادات أو المعنيين ببيئة تطبيق القرار الذي حزمت أمرك سلفاً فيه، والشورى الثانية هنا لها وظيفتان: تحفيز من تشاور كي تكسبه شخصيا وسوف يقدّر لك اختيارك له، والوظيفة الثانية هي تهيئة مناخ وبيئة التطبيق كأنما الرأي قد صدر عنهم وبمشاركتهم فيتحمسون للتنفيذ.
وختاما .. طال الحديث ولم يسألني أحد عن علاقة العنوان بالموضوع، ومن هو المستشار الميت؟..
المستشار الميت يا سيدي هو: التاريخ وتراجم الرجال والسير الذاتية التي مات أصحابها ومؤرخوها، فكلما حزبك أمر واستطعت أن تعود له بالقراءة والتحليل فإنه سيغنيك عن المستشارين ومقالتي برمتها...
أيها السعوديون ... الشورى مستقبل.