"تجريم" المضاربة اختزال لمشاكل سوق الأسهم

تدور بين أوساط المتعاملين في سوق الأسهم هذه الأيام شائعة مفادها أن هيئة السوق المالية بصدد منع التداول اليومي في سوق الأسهم السعودية من خلال منع المتعامل من تنفيذ أمري بيع وشراء في اليوم نفسه لسهم بعينه، بمعنى إذا تم تنفيذ أمر الشراء اليوم فإنه لا يحق لمالك السهم بيعه إلا بعد مضي 24 ساعة. بعيداً عن صحة الشائعة وأهدافها، يلاحظ المتابع تعالي النداءات من وقت لآخر مطالبةً هيئة السوق المالية بالعمل على "الحد من المضاربة" في سوق الأسهم، أو "وضع القيود للحد من المضاربة"! هذه النداءات في حقيقة الأمر لا تدرك إلى حد بعيد ماهية المضاربة، ودورها في تطور السوق، وما يترتب عليها من منافع ومخاطر. وربما أسهم ضعف الإدراك هذا في تطور "ثقافة" تدعو إلى "تجريم المضاربة"، وكأن ظروف سوق الأسهم وما تواجهه من تحديات تتوقف على سلوك المضارب وتداعيات المضاربة، وهذا بحق اختزال غير عادل لإشكاليات السوق وظروفها إذا وضعنا الأمر في كفة ميزان المدى الطويل.

بدايةً، ينص نظام السوق المالية على قانونية التداول حيث يعّرفه النظام بأنه "شراء الأوراق المالية وبيعها" (المادة الأولى من نظام السوق المالية). هذا التعريف بطبيعة الحال لا يحدد بعداً زمنياً للبيع والشراء (التداول)، بل يترك الأمر مفتوحاً حسب رغبة المتداول (المتعامل بالأسهم) وخطته الاستثمارية، فهو بالخيار أن يبيع بعد دقائق من الشراء أو بعد سنوات. فإذا وجد في البيع والشراء اليومي وسيلة ملائمة لتعظيم عوائده من الاستثمار في الأسهم فهو بهذا قد اختار أن يضع نفسه في دائرة المتداولين اليوميين daily traders، الذين يشكلون جزءا من فريق المضاربين، وهم في مجموعهم يشكلون عنصراً مهماً من منظومة السوق، حالهم في ذلك حال المستثمرين طويلي الأجل، والوسطاء، ومقدمي الخدمات المالية، ومنظم السوق، وغيرهم. إضافة إلى ذلك، فالتداول اليومي حق قانوني لمن انتهجه وليس من العدل انتزاعه، وأسواق الأسهم في شتى أنحاء العالم تمشي على هذا العرف. وبالتالي فإن الدعوة إلى منع التداول اليومي دعوة إلى الخروج على نظام السوق المالية أولاً وأعراف التعامل في سوق الأسهم ثانياً، ناهيك عن الآثار السلبية والمخاطر التي قد تنجم عن الدعوة لاستصدار مثل هذه القرارات.
وإذا نظرنا إلى الأصل خلف انتهاج البعض لاستراتيجيات تقوم على التداول اليومي، فهي تعود إلى الاعتقاد بأنها تساعد على تفادي موجات التصحيح وما ينطوي عليها من مخاطر، وتسهم في تعظيم العوائد. بالطبع هذا الاعتقاد قد يكون في غير محله خاصة في الأسواق الناشئة ذات السمة التصاعدية، كما أن الاعتقاد أن بإمكانهم تجنب المخاطر اعتقاد يشوبه عدم الصحة، فالجميع عرضة لمخاطر السوق بل ربما يكون المتداول اليومي عرضة أكثر من غيره لمستويات أعلى من هذه المخاطر. وبالنظر إلى الطرف الآخر من المعاملة (الوسطاء: وهم البنوك في حالة السوق السعودية)، نجد أن التداول اليومي يمثل مصدراً جيداً للدخل من المعاملات، فالمتداول اليومي (كما يبدو) أكثر ربحية للبنك من المتداول الأسبوعي أو الشهري وهكذا.. ولكن زيادة وتيرة التداول اليومي في المقابل تمثل عبئاً تقنياً على أنظمة التداول لدى البنوك. لهذا لن نستغرب (من خلال سياق هذه الشائعة) محاولة البنوك تعظيم منافعها بالضغط نحو "تمييز عمولات التداول"، بمعنى فرض عمولات أعلى على التداول اليومي بدلاً من السعي نحو تطوير أنظمة التداول لديها!
حقيقةً، لقد تطورت ثقافة "تجريم المضاربة" نتيجة للخلط الشائع بين التداول اليومي المشروع وبين التداول اليومي بغرض التضليل وإيجاد الانطباع الكاذب عن سلوك السهم. حيث إن التداول اليومي في أغلب الأحيان هو الأداة التي يستخدمها المضلل للإيحاء بأن سعر السهم في حالة ارتفاع أو أنه بصدد الارتفاع. فالمضلل كما المجرم الذي يستخدم السكين في قتل ضحيته! فهل الأولى رصد المجرم والسيطرة على أسباب انتشار الجريمة أم منع الناس من اقتناء السكاكين؟
ختاماً، هذه دعوة للمتابعين بصرف النظر عن تجريم المضاربة (خصوصاً التداول اليومي) والانصراف إلى ما هو أعمق بالدعوة إلى اتخاذ التدابير اللازمة للإيقاع بالمتلاعبين بسلاح المضاربة من مضللين وغيرهم. والسعي نحو الحلول الأقل دراماتيكية من خلال التعامل العقلاني مع ظروف السوق وذلك بتسريع وتحفيز عمليات الإدراج، وتفعيل مواد نظام السوق المالية واستكمال كافة لوائحه التنفيذية، وتركيز الجهود نحو فتح قنوات استثمارية جديدة والتسريع في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي سبق وأن اعتمدتها الحكومة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي