Author

أنماط الاختلاف الجماعي في بيئة العمل

|
الصراعات السلبية في بيئة العمل تكاد تكون سمة طبيعية في جميع المؤسسات والمنظمات العامة منها والخاصة، أسباب عدة تتسبب في نشوء هذه الظاهرة وتوفر لها الوقود للاستمرار. من هذه الأسباب عدم التحلي بروح الفريق الواحد وغياب الشفافية وسطوة المصالح الفردية على المصالح العامة والأنانية والحسد وشخصنة المسائل والحكم على الشخص لا على العمل والنفاق الاجتماعي والسكوت عن الحق والرضا والاستسلام للظلم، بمعنى آخر الفساد الإداري بكل أشكاله وصوره وتطبيقاته. تظهر هذه الصراعات السلبية بأشكال مختلفة وأنماط متنوعة، تمارس بشكل جماعي أقل ما يوصف به هو «غباء جماعي»، نتوارثه جيلا بعد جيل، ولك أن تنظر إلى حال الموظف الجديد في أي قطاع ثم انظر إلى حاله بعد سنة أو سنتين، ستجده حتما نقلت إليه عدوى «الغباء الجماعي» (إلا من رحم ربي). هذا «الغباء» لأننا غيبنا حسنا الفطري الذي نميز به بين الخطأ والصواب واتجهنا مع الريح فلعبت بنا وبمنظماتنا كيفما تشاء. أخلاقيات العمل وتعاليم الدين الحنيف يضرب بها عرض الحائط في صور متعددة من ممارساتنا العملية في بيئة العمل. بالتأكيد هناك من ينأى بنفسه من الوقوع في هذا «الغباء الجماعي» ولكن الشر يعم والخير يخص. من هذه الأنماط ما يُغيب بها المفاهيم الإدارية والأخلاقية السليمة أو تعكسها رأسا على عقب، فتجد مفهوما إداريا أو أخلاقيا الأصل فيه هو الحفاظ على بيئة عمل خالية من المشكلات ومحددة الصلاحيات والمسؤوليات إلا أن ممارستنا لهذه الأنماط الدخيلة على بيئة العمل المثالية تعكر صفو هذه المفاهيم وتبني عليها مفاهيم مغلوطة ثم يتم تداولها على أنها هي المفاهيم الصحيحة. مثال ذلك: الحساسية المفرطة في التواصل بين الزملاء بشكل رسمي، حيث إنه هناك مفهوم مغلوط واسع الانتشار وهو أن المراسلات الرسمية هي إحدى الوسائل المبطنة لاصطياد أخطاء الآخرين، على عكس مفهومها الأصيل وهو أنها إحدى وسائل الضبط والتحكم في بيئة العمل، حيث إنها تحدد المسؤولية وتسهم بفاعلية في التواصل الجيد الموثق بين أعضاء المؤسسة، وبالتالي يشكك في نية ونزاهة الزميل ولا يكون لتقديم النية الحسنة نصيب، فيَنصَب جل التفكير على الرد بشكل رسمي مماثل حتى يُسد هذا الباب، بينما المعلومة المطلوبة للعمل تًًتخفى وتًتًكسر وتًتًزيف بعيدا عن الحقيقة جراء هذا الصراع السلبي. نمط آخر هو التخوف من التصريح الصحيح للفترة التي تستغرقها مهمة ما والمبالغة فيها وتعمد التأخير، حيث إن المفهوم المعكوس هو أن إطالة فترة أداء المهمة تحميك من ضغط العمل من رؤسائك، بمعنى أنه دائما ما ستحصل على فترة زائدة لتنفيذ المهمة، ممكن أن تستفيد منها عند الحاجة. كما أن هناك مفهوما مغلوطا آخر مرتبطا بهذا المفهوم وهو أن على الموظف ألا يتفانى في عمله كثيرا، فإن عمل ذلك أصبح هو الشخص الذي يتحمل المسؤولية كاملة، وبالتالي لا تستطيع المنظمة الاستغناء عنه فيؤثر ذلك سلبا في إجازاته وابتعاثه وخلافه، وفي المقابل يتمتع الآخرون بالإجازات والابتعاث وغيرها. يساعد تداول هذه المفاهيم الإدارات السيئة والأنظمة التي لا تدعم الموظف المجتهد ولا تعطيه امتيازات وحوافز على عمله. نمط آخر (مختلف نوعا ما) يتشكل بصورة الأحاديث الجانبية بين الزملاء التي لا تخلو من الغيبة والنميمة والنفاق الاجتماعي (وهذا وقود رخيص التكلفة عند البعض والله المستعان) فنجد أن الأحاديث الجانبية أصبحت ذات قيمة وأهمية لمن بداخل المنظمة (إلا من رحم ربي)، فيكثر نقلها وبناء الانطباعات والقرارات على أساسها دون التمحيص والتأكد منها. وأعلم يقينا أن الكل يعلم عما تقوم به هذه الأحاديث الجانبية من إثارة الصراعات ومن ثم التأثير في القرارات داخل المنظمة. نمط آخر هو التهميش في بيئة العمل، وأكاد أجزم بأن كلنا نعرف على الأقل شخصا أو اثنين مهمشين في إداراتنا. وبمجرد تفكيرنا أن نكون نحن المهمشين ستجد الواحد منا يعيش دوامة سريعة من المتاعب النفسية. هناك أشخاص داخل المنظمة مهمشون نتيجة الصراعات في بيئة العمل. فتحجب عنهم المشاركة في اللجان وإبداء الرأي وتحجب عنهم المشورة والمسؤوليات وتحجب عنهم الانتدابات والدورات التدريبية والمميزات الوظيفية وغيرها. بل قد يصل الأمر إلى التقليل من عملهم وجهودهم والتقليل من إمكاناتهم والتعسف في إصدار القرارات تجاههم. نمط آخر هو عدم مناصرة المظلوم والسكوت عن الظالم بحجة البعد عن الصراعات وعدم حشر الذات فيها. بينما نقرأ هذه السطور يتبادر إلى أذهاننا عديد من حالات الظلم والتعسف في حق زملائنا بسبب الصراعات الداخلية في بيئة العمل، وبالتالي لا نحب أن يجري علينا ما جرى لزملائنا. إلا أن هذه المبادئ لا تخمد النار وإنما تترك النار تأكل في الهشيم. فتأتي نتيجتها على المنظمة ككل ولا ينفع الندم حينئذ. حقيقة الأمر أن هذا المبدأ مبني على نمط آخر وهو «إن لم تكن معي فأنت خصمي أو عدوي» وهذا موجود في بيئة العمل. ولذلك يتبنى كثيرون مبدأ السكوت. نمط آخر هو «اللت والعجن» في الاجتماعات، فكثيرا ما تثير الاجتماعات الحنق والضجر بين المجتمعين الذين بينهم صراعات ماضية، وبالتالي يفتقدون التركيز على ما يطرح في الاجتماع وعلى القرارات المهمة للمنظمة, وينصب تركيزهم على معارضة خصومهم والتقليل مما يطرحون، وبالتالي يكون الاجتماع لاحتواء الخلافات وفض النزاعات لا لتقدم المنظمة ونقاش ما يجعلها في الطليعة بين أقرانها من حيث تقديم الخدمة للمستفيدين منها. نمط آخر هو عدم التعاون مع المدير أو المسؤول الجديد بحجة الصراعات الماضية، وبالتالي يكون هذا المدير مثل كف اليد الواحدة لا يمكن له أن يصفق، فيتآمر عليه معاونوه حتى يخذلوه فيبرهنوا أن الاختيار لم يكن صحيحا لصاحب القرار، وبالتالي نرى أن كثيرا من المسؤولين الجدد يأتون للمنظمة ومعهم معاونوهم ثم بعد فترة قصيرة من ممارستهم يبدأوا بحماية أنفسهم ومناصبهم بالتخلص ممن يحاول خذلانهم. في هذا الوضع لا يكون اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب بل تلعب الصراعات في بيئة العمل الدور الرئيس. قد يقول قائل إن هذه الأنماط وصورها المتعددة ليست ذات أهمية وتأثير كبير في المنظمات وإنها لا تعد أكثر من صور حياتية تقترب من سنة الحياة وليس هناك «مدينة فاضلة». فأقول: إن هذا صحيح إذا نظرنا إلى هذه الصور بشكل منفصل ومنعزل عن بعضها بعضا، ولكن عند اجتماع أكثر من نمط على منظمة فبلا ريب سيتفق الجميع على التأثير الكبير الذي ممكن أن تخلفه هذه الأنماط مجتمعة. أما القول إنها سنة الحياة وإنه حتى الإخوان فيما بينهما يتصارعان ويتخاصمان في كيان الأسرة الواحدة، فأقول: إن هذه الصراعات لا يسمح لها بتاتا بأن تتعدى حاجز المناوشات والصراع الأزلي الطبيعي، أما أن تتجاوز ذلك إلى حد الكراهية أو الظلم أو الاستئثار بالرزق أو التشكيك في نزاهة ونية الآخر أو التدليس عليه أو التصيد لأخطائه أو النفاق في التعامل معه أو حرمانه من حق له أو غير ذلك, فهذا كله ليس من سنة الحياة وإذا كان كذلك فلم يحذرنا الله ـ عز وجل ـ من هذه الأفعال المشينة! وأخيرا هناك كثير من الأنماط الأخرى التي نمارسها «بغباء» أو نرى ممارستها في بيئة العمل ولا نحرك ساكنا, بل على العكس نجري مع رياحها فتذهب بنا إلى ما لا تحمد عقباه. يقول روبرت جرين أنجرسول « أن تتحلى بالحس الفطري دون أن تتلقى التعليم خير لك ألف مرة من أن تتلقى تعليما دون أن يكون لديك حس فطري!».
إنشرها