التعصب في كرة القدم (2 من 2)

واستحلفني أحد القراء بأن أذكر حادثتين تؤكدان أن التعصب يؤدي إلى الحقد والكراهية وإلى أبعد من ذلك, وهو القتل, مثلما حدث بعد مباراة الترجي والإفريقي التونسيين عام 1425هـ, حيث قتل أكثر من 30 شخصاً، كما أدى في مرة من المرات إلى حالة طلاق حدثت بين مشجع أهلاوي وزوجته المشجعة الاتحادية في جدة بعد فوز الاتحاد على الأهلي.
ونضيف أيضاً أن من المظاهر السالبة للتعصب في كرة القدم ظاهرة العنف والشغب, فهناك كثير من الأحداث والتصرفات غير الحضارية التي تعقب انتصارات المنتخبات أو الفرق المحلية, وينتشر هذا الشغب في كثير من الأحيان إلى أبعد من محيط الملاعب فيظهر في الشوارع ووسائل النقل عن طريق استخدام السيارات بشكل غير حضاري وإطلاق الأصوات المزعجة وتعطيل حركة السير والإخلال بالأمن, وبالطبع لم يضع الدخلاء الفرصة فاستغلوا الفوضى التشجيعية لضرب الآخرين وتهشيم سيارات المارة, ومناوشة العمالة في الطرق, وأسوأ من ذلك بكثير المجاهرة بمنكرات الأقوال والأفعال, فمن الشباب من يجعل من التشجيع الرياضي باباً للمجاهرة بالسب والشتم وألفاظ يندى لها الجبين خجلاً.
وحينما نحاول أن نعالج أمرا ما يجب علينا أن نبحث عن الأسباب الرئيسة ثم نخطو خطوات المعالجة في ضوء تلك الأسباب, فإذا افترضنا أن جنون كرة القدم وسحرها الجذاب اللذين يسلبان العقول ويربطان الرياضيين من محبي كرة القدم بانتماء للأندية يثيران فيهم حماسة زائدة عن الحد وغيرة ـــ أجارنا الله منها ـــ فإن هناك حقيقة علمية تؤكد أن الانتماء احتياج إنساني قوي ربما لا يصمد أمامه كثيرون, وهو غريزة إنسانية تبحث دائماً عن الانتصار, فقد تربينا على أن نحقق الانتصار, فالطفل وعمره ثلاث سنوات يأتي راكضاً داخل البيت ليقول لأمه (فزت بالسباق), وهذا السباق غالباً ما يكون بينه وبين أحد أصدقائه أو جيرانه، وقد تعلمنا أن نفرح بالانتصار في كرة القدم أكثر من فرحنا بنجاحنا في دراستنا الأكاديمية, خاصة أن حياتنا اليومية ليس فيها ما يشبع تلك الغريزة, لأننا نحقق الانتصار من دون أن يكون هناك مهزوم, وهذه علة التربية التي تعلمنا أن ننتصر على شخص ما, لكنها لم تعلمنا كيف ننتصر على رغباتنا وعلى شهواتنا وعلى أنفسنا, فنحدث التفوق الذي يميزنا.
ولا بد لنا هنا أن نذكر أن كرة القدم نشاط بسيط يمكن لأي شخص أن يمارسه, بل يستطيع أن يتحدث فيه وسط أرقى المجتمعات والتجمعات وأكثر من ذلك يمكن أن يفتي فيه أو أن ينتقد المدرب في وضعه الخطة أو التشكيلة التي لعب بها، علماً أن هناك بعض الظروف التي لا يعرفها إلا المدرب، مثل أن يكون اللاعب مصاباً أو يمر بحالة نفسية لا تسمح له باللعب, وعلى الرغم من ذلك نجد التشريعات من الجمهور, بل تعدى الأمر ذلك إلى محللي القنوات الفضائية، دون أن يجد حسابا أو عقابا على ما يقوله أو يفتي به، وقد برع بعض عشاق الكرة في استرجاع كمية هائلة من المعلومات عن فرقهم ولاعبيهم ليجادلوا بها ويحاولوا أن يثبتوا بها أحقية فرقهم بنيل الجوائز العالمية في التفوق، وشيء آخر هو أن كل شخص بالغ أو غير بالغ عاقل أو غير عاقل, يستطيع أن يمارس لعبة كرة القدم في أي مكان أو زمان بحرية ويمكنه أن يتخيل أنه أحرز هدفاً يشابه هدف مارادونا الأسطوري في شباك إنجلترا, وهو لا يعلم أن ذلك الهدف الذي أحرزه مارادونا بيده يمثل قمة الانحطاط الخلقي, لأن الرياضة أمانة وصدق في الأداء. والأسوأ من ذلك كله أن المرء يذهب إلى ملعب كرة القدم ليشاهد مباراة لفريقه فينفعل ويشتم الحكام ولاعبي الخصم, بل بعضهم يشتم لاعبي فريقه ويتلفظ بما يشاء من الألفاظ دون أن يراعي أن من بين المشجعين أطفالا دون الـ 14 يتأثرون بمثل هذه الألفاظ, بل ربما يرددونها في مدارسهم فتنتقل بسرعة مثلها مثل أي فيروس ينهش في أخلاقيات وألفاظ أبنائنا، يحدث كل ذلك دون أن يحاسبه ولا يعاقبه أحد, لأننا لم نتعلم ذلك في مدارسنا ولا من خلال أنديتنا ولا من خلال إعلامنا المرئي والمقروء ولا المشاهد, فهي لم تعلمنا كيف نختار المفردات المهذبة للتعبير عما يجول بخاطرنا في تلك المواقف.
إن كرة القدم بوضعها الحالي الذي يمثل الثراء.. الشهرة .. النفوذ .. الاحتراف يفرض علينا أن نتعامل أيضاً وفق هذه المعطيات باحتراف في العمل الإداري والإعلامي ووسط المشجعين, بل في كل المؤسسات ذات الصلة.
وبلا أدنى شك هناك عناصر لها تأثير مباشر وخلقت الحماس الزائد على الحد, الذي ينقلب إلى تعصب يسبب كثيرا من الكوارث، وأهم هذه العناصر إدارات الأندية ممثلة في رؤساء الأندية وأعضاء الشرف والإداريين، الإعلاميين في جميع مواقعهم في الصحف والمجلات والكتاب الرياضيين، القنوات الفضائية، المنتديات الرياضية الخاصة بالأندية وغيرها، وروابط المشجعين.
ولنتناول ذلك بهدوء حتى نصل إلى صيغة أمثل نحد بها من غلواء التعصب.
أحد أهم أسباب التعصب الرياضي تصرفات وتصريحات وملاسنات رؤساء الأندية وأعضاء الشرف والإداريين واتهاماتهم وتجريحهم بعضهم بعضا, وكأن كرة القدم أصبحت ميداناً للقتال وليست ميداناً للتنافس الشريف, ويتأثر باقي الفئات بهذه التصريحات, فحينما يكون هناك تصريح من رئيس النادي فهذا مؤشر وضوء أخضر للجميع بالتصرف وفق هذا التصريح وينعكس ذلك على تصرفاتهم خارج الملعب وداخله, لذا يجب أن يتعامل هؤلاء المسؤولون بلغة منضبطة في مفرداتها واتخاذ الحوار أسلوباً للتعامل مع من نختلف معهم في الرأي, ولكل إداري الحق في العمل من أجل مصلحة ناديه أو منتخب بلاده وفق الأسس والنظم والأخلاق الرياضية التي يجب أن تسود. ولا بد أن نتذكر دائماً أن إدارة الأندية الرياضية فن قائم بذاته يحتاج إلى أشخاص متمرسين دارسين متفقهين في علم الإدارة، وأجدها فرصة سانحة للإشادة ببعض رؤساء الأندية الذين يقودون دفة الأندية بمنتهى الأمانة والوعي الإداري المتفتح.
وهناك عدد من الإداريين, ولا أقول كلهم, يتعاملون مع أخطاء التحكيم وكأنهم لا يؤمنون ولا يعرفون أن الحكم بشر يخطئ ويصيب, وأن أفضل الحكام أقلهم أخطاء, لذلك تجدهم دوما وأبدا يهاجمون الحكام بأبشع العبارات, ويتناسون أخطاء لاعبي أنديتهم وجهلهم بالقوانين التي تحكم اللعبة, بل معظمهم يجعلونها شماعة يعلقون عليها فشلهم وإخفاقاتهم, وأخص هنا مديري الكرة والأجهزة الفنية والإداريين الموجودين في دكة اللاعبين الاحتياطيين, فإن انفعالاتهم تحدث كثيرا من المشكلات, بل في حالات كثيرة تسبب ضرراً بليغاً لأنديتهم من خلال نرفزتهم للجهاز الفني بهذه التصرفات التي تؤدي إلى اتخاذ قرار خاطئ نتيجة فقدان توازن تفكيره نتيجة هذه النرفزة, والحقيقة المرة التي يجب أن يعرفوها أن مثل هذه الانفعالات لا تغير في قرار الحكم, بل ربما تثير الحكم فيتخذ قرارات مضادة ربما تكون خاطئة, وينعكس ذلك أيضاً على تصرفات اللاعبين داخل الملعب ويتملكهم الإحساس بالظلم وتثور الجماهير، وفي أغلبية الأحيان ينتج هذا عن جهل بالقوانين, علماً بأن القانون كفل للاتحادات معاقبة الحكام وإعادة المباراة إن كان خطأ الحكم خطأ فنياً, ولدينا أمثلة كثيرة جداً من الحكام الذين حكموا نهائيات كأس العالم 2010، يجب أن نتعامل بصورة حضارية وبروح رياضية، وأن نتحمل أخطاء الحكام مثلما نتحمل أخطاء اللاعبين, فكم من لاعب أضاع ضربة جزاء ونقول له (معليش يا كابتن) .. لماذا لا نفعل ذلك مع الحكام؟ لا شيء يمنعنا سوى جبن يتغلغل في أعماقنا.
وهنالك عنصر آخر مهم جداً في هذه المنظومة التي تشكل بوابة رئيسة ينتشر عبرها ذلك التعصب البغيض, وهو الإعلام الرياضي بصفة عامة والصحافة بصفة خاصة وما فيها من عناوين مثيرة وكتاب رياضيين لا هم لهم إلا مهاجمة الغير وكاريكاتيرات تعبر عن حقد دفين تجاه الخصوم وتستفز مشاعرهم وتتسبب في مزيد من التعصب الرياضي.
العناوين نرى فيها عبارات مثيرة لا تشبه الرياضة ولا كرة القدم, بل هي عناوين تصلح لإثارة الهمم وشحذ العزائم لحروب ضد الصليبية, أو لمباريات في الملاكمة التايلاندية لا يمكن أن تطلق على مباريات كرة قدم بين فريقين, وغير ذلك من التصريحات النارية والعبارات غير اللائقة التي تعبر عن حقد دفين في القلوب، بل تمثل الفشل والهزيمة الحقيقية خارج الملعب.
حتى كتاب المقالات ينحرفون بكتاباتهم عن كونها مقالات يجب أن تنتقد وتصلح الحال في الأندية أو تشير إلى خطأ ما وتعالجه بهدوء، وليس عيباً أن يخاطب الكاتب جماهير ناديه للوقوف معه والانتساب الرسمي وأخذ بطاقات عضوية النادي ومساهمتها المادية في دعم النادي وفي ترقية أساليب التشجيع وتقويتها حتى تساند الفريق في كل الأوقات ومرافقة الفريق في المباريات الخارجية .. مليون شيء يمكن أن يفعله الكتاب من أجل رفعة ناديهم بعيداً عن تجريح الآخرين واستفزازهم، وعليهم نشر الوعي بين الجماهير وإفهامهم أن كرة القدم فائز وخاسر, وعليهم أن يتحلوا بالروح الرياضية في كل الأوقات وفي كل الأحوال, وليفرحوا بنصرهم, لكن في حدود الأدب والذوق بعيدا عن المهاترات مع الخصم التي تشوه في أغلبية الأحيان جمال فرحتهم بالنصر.
أما المنتديات الرياضية الخاصة بالأندية فحدث ولا حرج, فهي أيضاً عنصر من عناصر ازدياد التعصب الرياضي, فالمنتديات الرياضية نرى فيها العجب والعجاب، نرى تجريحا للجميع ونرى سبا وشتما وألفاظا نتبرأ منها ولا تليق بالرياضيين, فنحن الرياضيين نمتاز على كل الفئات الأخرى بأن لنا روحا تسمى الروح الرياضية, وكم من سياسي قال للآخر (خلي عندك روح رياضية) .. هذا الحديث له معانٍ كثير يجب أن نستوعبها ونقف عندها ونتخلق بها.
والعنصر المغلوب على أمره ويتأثر بما يدور حوله وما يصرح به من إداريين وما تكتبه الصحف أو القنوات الفضائية هو روابط المشجعين بالأندية؛ فينعكس ذلك فوراً في المدرجات فنسمع الأصوات تعلو والرابطة الخاصة بالنادي تسيء للنادي الآخر من خلال أغان تقلل من الفريق الآخر, وربما تسيء للاعبيه بطريق غير مباشر أو مباشر, فالمطلوب من روابط الأندية تهدئة المدرجات والتغني بالأهازيج التي تشحذ همم لاعبيها وتحرك فيهم روح الحماس دون المساس بجمالية المفاهيم الرياضية التي تفرض على الجميع احترام الخصم .. مجد كما شئت فريقك لكن لا تسئ للآخرين .. تغن بأسماء لاعبي فريقك كما تشاء, لكن لا تسيء للاعبي الفريق الخصم .. صفق لخصمكم حينما يبدع, فشيمة أهل الرياضة الإشادة بالمبدعين.
وهنالك عنصر آخر مهم جداً جداً لأنه يتعدى حدود الملاعب ويدخل البيوت من أوسع أبوابها, فيستمع إليه الأم والأخت والأخ والأطفال, وبالتالي يكون تأثيره أكبر, فعلى مقدمي برامج الفضائيات والمحللين الفنيين أن يتقوا الله في أنفسهم, لأنهم يحملون إما مشاعل تزيد نيران الفتنة وتؤجج روح العداء بين الرياضيين عن علم بهذا أو بجهل, وكلاهما طامة كبرى, وإما أن يتعاملوا باحترافية في هذا الأمر, لأن هذا المنبر يمكن أن يكون منبراً مناسباً لنشر الثقافة والفضيلة وترسيخ مفاهيم مبادئ الروح الرياضية السمحة.
إن "التعصب الرياضي" وصمة في جبين كل الرياضيين, ولذلك يتطلب أمر المعالجة جهدا من الجميع لإزالته أو للتخفيف من تأثيره المشوه, وذلك لن يتحقق إلا بتفاعل الصادقين الناصحين وعلى رأسهم المسؤولون عن الرياضة في الدول والإداريون والإعلاميون والمعلمون في المدارس والدعاة والمربون الذين عليهم مسؤولية تربية الأجيال على المفاهيم الصحيحة.
وهنا بعض المقترحات التي يمكن أن تساعد على معالجة هذا الأمر:
- تعقد ندوات ومحاضرات في الأندية ولروابط المشجعين توضح أضرار التعصب الرياضي وتجعل من هذا التعصب أمراً إيجابياً في دعم الأندية من كل النواحي المادية والبشرية.
- عقد ورش عمل في الأندية تضم الإداريين والفنيين مع مراقبي الحكام.
- عقد ندوات تثقيفية للاعبين تبصرهم بمواد القانون, بل يطلب من اللاعبين والمحترفين بالتحديد حفظ عدد أو كل مواد قانون كرة القدم.
- عقد محاضرات في المدارس والجامعات لشرح أبعاد مضار التعصب الرياضي.
- عقد ندوات تثقيفية للمشجعين يتم فيها شرح بعض مواد القانون التي تثير المشكلات كالمادة 11 (التسلل) و12 (الأخطاء وسوء السلوك) و14 (ركلات الجزاء) وهي أهم مواد قانون كرة القدم تأتي من ورائها المصائب.
- عمل حملة إعلامية مكثفة عبر الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والمنتديات تقوم بتثقيف وتوعية الجميع بمضار التعصب الرياضي ونشر المبادئ السامية والمفاهيم التي تدعو إلى التحلي بالروح الرياضية السمحة.
- إصدار نشرات وكتابة مقالات توعية لنشر المفاهيم الخاصة بنبذ التعصب وجعله أداة داعمة للأندية عبر خطط عمل مدروسة بطريقة علمية تحقق هذا الغرض.
- إنشاء أمن خاص يسمي (أمن الملاعب) مهمته لا تقتصر على الشغب بل تتعداها إلى توقيف الذين يمارسون أنواعا من الشتائم والسب وغيرها من التصرفات التي لا تمت إلى أخلاق الرياضة بصلة.
- على المسؤولين عن الرياضة في الدول وعبر الاتحادات الأهلية واللجان المختصة سن القوانين والأنظمة التي توقف هذا المد في حده.
الأمر أيها الأعزاء يحتاج إلى قناعة بأهمية المعالجة, ويحتاج إلى صدق في تناول طريقة المعالجة, ويحتاج إلى شجاعة في اتخاذ القرار الصارم, ويحتاج إلى أن يتحمل كل منا واجبه ويقوم بدوره, ويحتاج إلى الجميع دون استثناء في ممارسة النقد الذاتي لإصلاح الذات أولاً ثم المساهمة في إصلاح باقي هياكل المنظومة الرياضية ثانياً, وذلك من أجل أبنائنا .. من أجل أن نكون قدوة حسنة للرياضيين في العالم .. ومن أجل أن نجعل من كرة القدم أداة ترفيه ومتعة .. وتحقيق أهداف الرياضة السمحة .. والله ولى التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي