الشركات المساهمة الكبرى وحاجتها إلى دساتير أخلاقية
لقد ازداد في الآونة الأخيرة الاهتمام بموضوع الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد الإداري وسبب ذلك كثرة الحالات التي حصل فيها تجاوز أخلاقي معين سواء في منظمات الأعمال الخاصة أو المؤسسات الحكومية، فالصحافة اليومية تكاد لا تخلو من خبر عن سلوك غير قويم يقوم به أفراد أو شركات أو إدارات حكومية تتفاوت درجة خطورته وآثاره السلبية على المستفيدين من السلع والخدمات التي ينتجها من مارس هذا السلوك. ولو اطلعنا على ما يكتب حول قضايا الفساد الإداري وتحليل أسبابه وما يقدم من مقترحات لمعالجته نجد أن أغلب هذه الكتابات تعتبر الفساد الإداري ممارسة خاصة بموظفي الدوائر الحكومية في أغلب الأحيان, وكأن منظمات الأعمال الخاصة والشركات المساهمة الكبرى خاصة بعيدة عن مثل هذه الخروقات الأخلاقية على اعتبار أنها أعمال خاصة وهناك حافز الربح وإلى غير ذلك من التبريرات.
إن واقع الأمر يشير إلى أن التجاوزات والخروقات اللاأخلاقية والأضرار التي تلحق بالمجتمع من جرائها المتأتية من الشركات المساهمة هي كبيرة ولا بد من متابعتها وإزالة آثارها. إن إحدى الوسائل الناجعة الوقائية هي تحصين العاملين أخلاقيا وأهم إجراءات التحصين هذه هو وجود ما يسمى المدونة الأخلاقية Code of Ethics أو الدستور الأخلاقي المعلن والشفاف والمعروف من قبل جميع العاملين، فما المقصود بالمدونة الأخلاقية وما أهميتها, وماذا يجب أن تتضمن ولماذا هي ضرورية لشركات الأعمال المساهمة بالذات؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال متعدد المطالب لا بد من الإشارة إلى أن كثيرا من الباحثين وفي ضوء الفضائح الكبرى التي هزت العالم مثل انهيار شركة Enron وغيرها، بدأوا بالحث على تبني ما يسمى الاستراتيجية الأخلاقية الشاملة من قبل شركات الأعمال الكبرى والتي تحوي إجراءات وقائية وأخرى علاجية تطبق في المديين المتوسط والبعيد, وتتعلق بتعزيز التوعية للعاملين في هذه الشركات والمتعاملين معها, وكذلك تعزيز مبدأ الممارسة الديمقراطية والشفافية وتوضيح للتشريعات والقوانين التي تكافح الفساد بجميع أشكاله, فضلا عن التركيز على تطوير وتمكين الموارد البشرية وتطوير حالة الإبداع والجدارة.
إن الدستور الأخلاقي أو المدونة الأخلاقية ليست جديدة على الشركات الخاصة أو الإدارات الحكومية العربية، فالموروث الإسلامي في هذا المجال زاخر بالكثير من القواعد والإجراءات التي يضرب بها المثل في هذا المجال حيث تأصلت أعراف وسلوكيات أخلاقية يرجع إليها في حال الاختلاف عن الجوانب السلوكية والأخلاقية القديمة في العمل، ولكن كثرة التجاوزات في عالم الأعمال اليوم وقلة الوعي بخطورة بعض السلوكيات والتبريرات التي يقنع بها المتجاوزون أنفسهم لتبرير سلوكهم غير المقبول أبرزت الحاجة إلى كتابة مدونة أخلاقية أو دستور أخلاقي معلن وواضح في كل شركة, خصوصا الشركات الكبرى، وهناك نماذج عالمية معتبرة في شركات كبرى مثل Du Pont للصناعات الكيمياوية وغيرها.
إن المدونة الأخلاقية وثيقة تقوم بصياغتها الشركة مضمنة إياها مجموعة من القيم والمبادئ ذات العلاقة بما هو مرغوب فيه وما هو غير مرغوب فيه من سلوكيات للشركة والعاملين فيها وقد تبالغ بعض الشركات في تسجيل ما يمكن أن يعتبر مثاليا في قواعدها الأخلاقية وأساليب تقدمها لحل المشكلات الأخلاقية المطروحة ولكن الأفضل أن تتضمن المدونة الأمور الأساسية. إن الشركات المساهمة الكبرى الموجودة في المملكة سواء منها العاملة في القطاع الصناعي أو الخدمي وفي جميع الحقول المالية والسياحية والصحية والتعليمية تواجه بين الحين والآخر إشكالات أخلاقية قد تطرح في شكل شكاوى أو تظلمات في الصحافة اليومية تدل على عدم وجود مدونات أخلاقية تمنع المسؤولين أو العاملين من ارتكاب تجاوزات تؤدي إلى مثل هذه الشكاوى، فالمدونة تشتمل على الجوانب والمعايير القانونية التي تمنع السلوك اللاأخلاقي
وتحث على تجنب العقوبات القانونية من جانب, وتعزز وتعرف بالقيم والثقافة التنظيمية التي يجب أن تسود في الشركة وتؤكد روح الالتزام لدى العاملين.
إن أهم ميزة توفرها هذه المدونات هي حماية الإدارة والعاملين على حد سواء من سوء التصرف وتعطي إحساسا بالقدرة على مواجهة الإشكالات الأخلاقية المثارة وحالة عدم التأكد المحيطة بها, كما تسهم في تعزيز مهنة الإدارة, حيث توفر حماية لسمعة الشركة. ولعل من المهم الإشارة إلى أن المدونات تحمي العاملين من انتهاكات الإدارة العليا اللاأخلاقية أحيانا, وأخيرا فإن المدونات تحد من الصراع التنظيمي من خلال خلق نوع من الانسجام والملاءمة بين قيم وأهداف الفرد العامل مع قيم وأهداف الشركة. إن هذه المزايا لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان محتوى المدونة غنيا بمفرداته ووضعه حدودا واضحة لا لبس فيها لقضايا مهمة تتعلق بالسلوكيات اليومية تجاه مدفوعات ومقبوضات الشركة والهدايا التي يمكن أن تقدم في إطار العمل وصراع المصالح أي مصالح العامل أو الموظف ومصالح الشركة وكذا الأمر فيما يتعلق بالمعلومات الداخلية الخاصة بالشركة فضلا عن المساهمات السياسية ودعم السياسيين وأيضا ما يتعلق بالمعايير المحاسبية والتوثيق. هذه أمور أساسية يجب أن تسعى الشركات إلى توضيح صيغة التعامل معها من خلال صياغة مدونتها الأخلاقية وتضمينها إشارات واضحة لها.
ولو استعرضنا الحالات اللاأخلاقية التي عكستها فضائح كبرى أو عقوبات بحق أشخاص أصدرتها الحكومات نجد أنها تقع ضمن واحد وأكثر من عناصر المحتوى المشار إليه أعلاه. فقد تقدم الشركات, خصوصا الكبرى, الكثير من الهدايا والأفضال والضيافات، هنا يجب أن تكون هذه الهدايا متوافقة مع ممارسات العمل العادية وليس مبالغا فيها أو باهظة الثمن بشكل غير عادي بحيث يفهم منها أنها رشوة أو مساومة مقابل شيء, كما أن الإفصاح عنها للجمهور لا يسبب إحراجا للشركة أو العاملين فيها. كذلك الأمر مع العمولات والحسومات والسماحات يجب أن تسجل وأن تكون مرتبطة بقيمة السلع المباعة أو الخدمات المقدمة وأن تدعم بوثائق ومستندات. والشيء نفسه يقال عن الهدايا المستلمة حيث يجب أن يحدد الغرض القانوني الذي تستلم في ظله هذه الهدايا والاستضافات وألا تكون نقدية.
إن صراع المصالح هو البند الذي يجب أن يولى عناية استثنائية في الشركات المساهمة فتملك العاملين أو عائلاتهم مصالح مادية في شركة لها تعامل أو تسعى إلى التعامل مع الشركة التي يعملون فيها وكذلك العمل مستشارا أو شريكا أو أي موقع إداري أو توظيف القدرات الفنية التي يتمتع بها الموظف أو العامل لصالح شركة لها تعامل مع الشركة التي يعمل فيها, وكذا الحال مع الوساطة أو التعقيب للمعاملات المختلفة وهي أمور شائعة في بيئة الأعمال في المملكة. وبالنسبة إلى المعلومات الداخلية فأمرها خطير خصوصا في ظل الفورة الحالية للمضاربة بالأسهم حيث إن أي معلومات تتسرب يمكن أن تنفع بعض الناس وتضر آخرين. وأحيانا تتعلق المعلومات بعقارات وأراض يمكن أن يتخذ بشأنها قرار حكومي أو أن يكون لها مستقبل بسبب بعض المشاريع المزمع إقامتها، هنا تلعب المعلومات دورا مهما خصوصا إذا جاءت من موظفين في الإدارات الحكومية. وأخيرا فإن التوثيق الصحيح وحفظ السجلات المحاسبية والالتزام بمبادئ ومعايير المحاسبية المحلية والدولية هو مجال قد يسبب الجهل به وعدم وضوحه التباسات وتجاوزات بغير قصد وأحيانا بقصد توقع أضرارا كبيرة، فالمبالغة في تقدير قيمة الأصول والممتلكات والإعلان عن أرباح غير دقيقة يمكن أن تتسبب في أضرار لا حصر لها. والآن بعد معرفة المحتوى المحتمل للمدونة الأخلاقية, لماذا الإلحاح على أهميتها للشركات المساهمة؟ نقول أولا إن الشركات المساهمة تعد اليوم من الأعمال التي تحرك اقتصادات الدول وتستثمر فيها كميات كبيرة من الأموال, وبما أن الأموال ليست ملكا لشخص واحد فقط بل هناك مساهمون رئيسيون محددون وهناك أعداد كبيرة من المساهمين عن بُعد, أي أن جزءا كبيرا من الأموال المستثمرة تكون في عهدة الإدارة المسؤولة عن الشركة. إن مصدر الضرر الكبير هو سوء الإدارة والتصرف في أموال المساهمين بشكل سيئ، فقد تتعامل إدارة الشركة بطريقة متهورة ودون إحساس بالمسؤولية كالمضاربة غير المنطقية أو إخفاء بيانات وعدم تسديد ضرائب للدولة أو المتاجرة بسلع وخدمات ممنوعة أو غير قانونية وهناك أمثلة عالمية كثيرة على هذه الممارسات. إن تصرفات الموظفين وإدارات الشركات المساهمة قد تتسبب أحيانا في دفع غرامات ثقيلة يمكن أن تحقق خسائر تضر بالشركة وتلحق الضرر بالمساهمين.
خلاصة القول إن المدونات الأخلاقية يمكن أن تنير طريق العاملين والإدارات للشركات المساهمة لأن هذه الشركات أصبحت اليوم المحرك الرئيسي للاقتصاد السعودي من خلال العدد الكبير لهذه الشركات والأعداد الهائلة للمتعاملين في أسهمها, وأي إشكال يحصل فيها يمكن أن ينعكس سلبا على النشاط الاقتصادي.