صندوق للطلبة المحتاجين

أنا من جيل لم يكن مستغربا، على الإطلاق، أن يأتي أحد زملائنا إلى المدرسة حافي القدمين أو بثوب أبيض بال في زمهرير الشتاء أو أن يخلع ثيابه في حصة التربية البدنية ليلعب بسروال السنة الممزق والفانيلا المرقشة ببقع الوسخ. لم نكن نميز هذا الشخص لأننا لا نختلف عنه شكلا وموضوعا. نفس "الخلاقين" والوجوه النحيلة الشهباء الصفراء، أما القسمات والنظافة فـ "حديث خرافة يا أم عمرو"!!
لم نكن ندقق ولا يهمنا إن كانت كتبه في حقيبة أو كيس، إن كان معه أربعة قروش للفسحة الطويلة ليشتري من المقصف أم أنه كان يحشو جيبه بالتمر أو جزء من رغيف، وما إذا كان يأكل شيئاً أم كان يفتعل العلك!
كان فقرنا غنيا وأسمالنا متماثلة وتمايزاتنا تلاشيا. وكان أساتذتنا وأهلنا من الطينة نفسها.
ذاك زمن مضى بمره الحلو، أما اليوم بعد طفرتين تنمويتين فقد لهثت الأنانيات واستأسد الخلاص الشخصي, وزحف شيء من الجليد على القلوب، غطت غشاوة الطمع على بؤس فاقع، وعلى ويل يرزح في الظنون. وذبحة صدرية تنهش الصدور.
استبدلنا الزمن اليوم بطلاب وطالبات لم يعودوا مثلنا, فيهم من يأتي بعربة فخمة بكامل هندامه وأناقته ونقد يملأ جيبه, وفيهم من ضج منهم دفتر الحضور المدرسي، يتغيب الواحد منهم عن المدرسة لا كرها في العلم ولا في المدرسين، إنما لأن رمح الحاجة يشك خاصرته. فلا يقوى على مجابهة الوجوه التي تسأله: لماذا لم تلبس حذاء؟ لماذا لم تحضر كتبك في حقيبة؟ لماذا لا تلبس ملابس الرياضة؟ لماذا ليست لديك أدوات مدرسية؟ لماذا لا تحضر متطلبات العمل الفني؟ لماذا لا تشارك معنا في الذهاب للرحلة أو للمطعم؟ لماذا لا نراك في المقصف؟ لماذا تدور بعيدا في الحوش؟ لماذا أنت صامت، شرس، عدواني، زائغ العينين، ساهم، مصفر الوجه.. إلخ؟!
بربكم من أين لهذا الطالب أو لتلك الطالبة أن يجدا الكلمات.. لكي تسد أفواه الزملاء أو الزميلات؟ تصير الحروف طعام الزقوم تغص بها الحنجرة. فهذا العوز الفاغر الفاه كجرح وحشي في مدارسنا موجع حتى العظم. فثمة طلبة وطالبات لا تسعفهم ظروفهم المادية على ما يقدر عليه أقران يجلسون معهم لم يخطر ببالهم أن تدبير هذه الأشياء أمر كالاحتضار. فكيف يستطيع هؤلاء التهيؤ لتقبل الدرس والاستيعاب بينما الأذهان تطحنها رحى الحاجة وتنهشها براثن الفقر؟
هذا الوضع الإنساني الحرج لم يغب عن ملاحظات بعض الخيرين من المعلمين وأصحاب القلوب الرحيمة. بدأت الفكرة في إحدى المناطق، بإنشاء صندوق ذوي الحاجة المادية للطلاب والطالبات، وجمعت موارده من نسب مقطوعة أو دائمة من الرواتب ومن مساهمة بعض الجهات ومن أهل البر والمعروف. تطورت الفكرة، عرضت على المقام السامي, تمت الموافقة, على أن تشرف وزارة التربية والتعليم على تنفيذها, سمي المشروع "صندوق ذوي الحاجة المادية للطلاب والطالبات في إدارات التعليم في مناطق المملكة".
ومع ذلك فإن تمويل هذا الصندوق ما زال يتطلب تبرعات مستمرة مجزية. فالاتكاء على إسهام ميزانية وزارة التربية والتعليم وتبرعات بعض منسوبيها لا يجدي. بل لا بد من تعميق موارده ودوره من خلال تخصيص نسبة له من ميزانية صندوق تنمية الموارد البشرية ونسبة أخرى من ميزانية صندوق الفقر، وتخصيص بند إعانة له في ميزانية الدولة ومصلحة الزكاة والدخل، كذلك الطلب إلى الشركات الكبرى مثل: "أرامكو", "سابك", "الاتصالات", إلى جانب المؤسسات والجمعيات الخيرية وأهل القطاع الخاص والأفراد.
وإني لأهيب بالجميع دعم هذا الصندوق الخيري.. والتنسيق بشأن ذلك مع وزارة التربية والتعليم.. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي