"المركز الأول!"
في أواخر شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام المنصرم 2005، نشرت القناة الفضائية "العربية" إعلانات مكثفة في صحيفة "الشرق الأوسط" وبعض الصحف المحلية تحمل عنوان "المركز الأول!". وذكرت القناة في صدر الإعلان أن "آخر الدراسات تؤكد أننا المرجع الرئيس للأخبار في المنطقة" مستشهدة بلوحة بيانات مقارنة تضع القناة في المركز الأول، تليها بفارق بسيط قناة "الجزيرة" ثم القنوات الأخرى بفارق كبير. ولعل من فضول القول إن إنجازاً كهذا يُحسب للقائمين على إدارة "العربية"، كما أنه سيجلب لها ولملاكها الكثير من المكاسب المعنوية والمادية، لكن الأهم من ذلك أن هذا الإنجاز قد يكون مؤشراً لما هو قادم من تغييرات في ساحة الإعلام المرئي في المنطقة، وهي تغييرات لنا أن نحتفي بها إن تحققت، بإذن الله تعالى.
ما يعنينا في هذا المقام من تجربة "العربية" العوامل الرئيسة التي أسهمت في هذه النقلة الكبيرة للقناة والقراءات أو القياسات التي تم رصدها لكل من هذه العوامل لعلنا نستخلص بعضاً من الدروس. وفي الوقت الذي خلا فيه الإعلان من تلك التفاصيل، فإننا لم نطالعها في مواقع أخرى، كما أننا لا ننتظر من القناة الإفصاح عن ذلك.
إن نجاح أي وسيلة إعلامية يعتمد على قدرتها على قراءة احتياجات المشاهدين أو القراء وترتيب أولويات تلك الاحتياجات ومن ثم تلبيتها بشكل أسرع وأفضل من المنافسين. وهنا سأقفز إلى ما أحسبه العامل الأساس، بجانب عوامل أخرى بالطبع، في وصول "العربية" إلى المركز الأول عام 2005. إنه الاقتصاد وربما لا أبالغ إن قلت إنه السوق السعودي بالتحديد.
والشاهد على أهمية الدور الذي يلعبه السوق السعودي في جذب شرائح واسعة من المشاهدين، أن "العربية" كانت إلى عهد قريب تقدم تغطية عادية في نشراتها الاقتصادية لا تختلف كثيراً عما تقدمه معظم القنوات الفضائية الخليجية الأخرى، باستثناء قناة واحدة. ويبدو أن "العربية" تنبهت للإقبال المتزايد الذي بدأت تحظى به تلك القناة خلال العامين الماضيين ما جعلها تفرد لها عموداً مستقلاً في اللوحة البيانية المقارنة التي تضمنها الإعلان. والقناة المقصودة هنا "سي إن بي سي عربية"، التي تخصصت في تغطية الأسواق المالية في الخليج، وبالذات السوق السعودي بشكل غير مسبوق، غير أن ذلك التميز أو التفرد لتلك القناة لم يدم طويلاً بعد أن بدأت "العربية" في النصف الأول من عام 2005 في تكريس جزء كبير من إمكاناتها وساعات بثها لتقديم تغطية إخبارية مميزة لحركة الأسواق الخليجية وفي مقدمتها السوق السعودي، وفي سياق ذلك نجحت في استقطاب شرائح جديدة من المشاهدين أصبحت "العربية" بالنسبة لهم المصدر الوحيد للأخبار الاقتصادية وغيرها أو ما يطلق عليه باللغة الإنجليزيةOne Stop Shop .
أما الشاهد الآخر على أهمية الدور الذي يلعبه الاقتصاد اليوم في جذب أعداد كبيرة من المشاهدين، أن القنوات العربية الفضائية الأخرى المنافسة لقناة "العربية" التي تمتلك إمكانات مشابهة، كتلك التي جاءت في المركز الثاني في لوحة المقارنة، تفتقد آليات الوصول إلى معلومات السوق السعودي بشكل مباشر على النحو الذي تتمتع به "العربية". وهذا يقودني إلى توجيه حديثي إلى إعلامنا الرسمي السعودي، إن النمو المطرد في الاقتصاد الوطني، والقفزات الكبيرة التي تشهدها السوق المالية، والمستجدات الإقليمية والعالمية في مجال التجارة ورياح الانفتاح التي بدأت تهب علينا من هنا وهناك، كلها عوامل تدعو إعلامنا الرسمي للقيام بدور أكبر مما يضطلع به الآن في تغطية الأسواق والأحداث الاقتصادية سواء كانت على المستوى المحلي أو الدولي، إذ إن توظيف الإعلام في تسويق البرامج الاقتصادية والترويج لفرص الاستثمار أصبح عنصراً مهما في خطط واستراتيجيات الكثير من المجتمعات، وهناك أمثلة ناجحة من حولنا في منطقة الخليج.
ثم إن التطلع لدور أكبر للإعلام السعودي في خدمة الاقتصاد الوطني لا يأتي من فراغ، إنما يستند إلى مرتكزات وحقائق، فالمملكة العربية السعودية تمتلك أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وتجارة واسعة مع شتى دول المعمورة، كما أنها تتصدر صناعة البترول في العالم بصادراتها واحتياطياتها الضخمة. وتحتضن المملكة سوقاً مالية من أكبر الأسواق الناشئة على مستوى العالم من حيث قيمتها الرأسمالية، ويبلغ عدد المواطنين الذين لهم مصلحة مباشرة في هذه السوق أكثر من نصف سكان المملكة وهو رقم يتخطى بمراحل مجموع سكان دول مجلس التعاون الأخرى بأكملها. بعبارة أخرى هناك فرصة ذهبية أمام التلفزيون السعودي لاستقطاب شريحة كبيرة من المشاهدين، إضافة إلى تحقيق منافع جمة بتنمية الوعي الاقتصادي بين أفراد المجتمع.
وكنت سبق أن كتبت أكثر من مرة في "الاقتصادية" كان آخرها قبل عام تقريباً عن الإعلام والاقتصاد، وأشرت يومئذ إلى أن تسخير الإعلام لقضايا المال والاقتصاد يتطلب خبرات متخصصة واعتمادات مالية لتقديم خدمات مميزة ومنافسة. وأعود اليوم لأؤكد ما سبق أن قلته في المقال المشار إليه إنه لا يساورني شك في أن البنوك والشركات الكبيرة ستُرحب، إن دُعيت، للمساهمة في توفير الخبرات والمال لتطوير هذه الخدمة، إذ إن نشر المعلومات الاقتصادية والثقافة الاستثمارية بشكل واسع بين المواطنين سيفيد أطرافاً عدة. فقط انظروا إلى تجربة "العربية".