الإعلان التجاري .. بدايات من الذاكرة
قد يكون من الصعب على المرء أن يرصد بدقة تاريخ نشأة وتطور نشاط الإعلان التجاري في المملكة، وكيف كانت البدايات متواضعة قبل نحو 40 عاماً إلى أن آل إلى ما هو عليه اليوم من حال كعامل مؤثر في معيشة المجتمع وثقافته. إلا أنه يمكن القول إن ذلك النشاط يرتبط تاريخه كعمل مؤسسي، إلى حد كبير، بإنشاء شركة تهامة للعلاقات العامة والإعلان عام 1975, التي تحولت فيما بعد إلى شركة مساهمة عام 1983. إذ كان ''الإعلان'' قبل تلك الفترة، كما نعرفه بشكله المعاصر، يعد نشاطاً غريباً على سلوكيات المجتمع السعودي, فحجم التجارة يومئذ كان متواضعاً، كما أن المنافسة كانت محدودة، وبالتالي لم تكن هناك خيارات أمام المستهلك تدعو لإعلانات تجذب انتباهه لهذه السلعة أو تلك, فمعظم السلع الأساس في حياة الفرد اليومية كان وكلاؤها معروفين كالحليب الجاف، حليب الأطفال، الشاي، السكر، الأرز، السمن، الصابون، وغيرها. بل إن بعضا من تلك السلع كان يكفي استخدام اسم الوكيل فحسب للدلالة عليها. أما بالنسبة للخدمات العامة كالمطاعم والفنادق فقد كانت تعد على أصابع اليد في المدن الكبرى إذ كان العرف الاجتماعي أن يتناول الناس طعامهم في المنازل فقط، وكذا الحال بالنسبة للمناسبات والأفراح.
بينما اليوم نرى ''الإعلان'' يطل علينا من كل حدب وصوب وفي كل الأوقات تقريباً منذ إشراق الصباح حتى نخلد إلى مضاجعنا. فقد تعددت وسائط الإعلان بين صحافة ورقية إلى قنوات تليفزيونية فضائية وبرامج إذاعية. وإن أعرض المرء عن تلك الوسائط فلا مفر من ''الإعلان''، إذ لا بد أن يصل إليه حتماً ضمن بريده المعتاد مع فواتير الخدمات وكشوف حساباته مع البنوك، كما أن الإعلان قادر على أن يكدر عليه وقت قيلولته ولحظات صفائه أينما كان من خلال الرسائل التي يبثها الهاتف النقال، لا سيما إن كان من أولئك الذين يحرصون على بقاء وسائل اتصالهم مع الآخرين متاحة على مدار الساعة. أما قدرة الإعلان على اختراق خصوصيات الناس من خلال استخدامات الإنترنت فحدث ولا حرج. لذا ليس من باب المبالغة أن يوصف عصرنا بأنه ''عصر الإعلان'' إلى جانب أوصافه الأخرى ''عصر الاتصالات''، ''عصر المعلومات''، وغيرهما.
لم يكن حجم التجارة المتواضع في الماضي وندرة الخدمات العامة من مطاعم وفنادق وغيرها العائق الوحيد أمام انتشار الإعلان التجاري في المملكة، بل كان هناك عائق آخر, ألا وهو غياب أساليب إيصال الإعلان إلى الهدف. بالطبع كان هناك عدد من الصحف المحلية ذات توزيع محدود تنشر فيها إعلانات تجارية في المواسم والمناسبات فقط ، كما كانت هناك بعض اللوحات الثابتة عند مداخل المدن، وهي وسيلة مكلفة تفتقر إلى المرونة عند الحاجة لتغيير مضمون أو شكل رسالة الإعلان بين حين وآخر.
ومن ثم برزت هناك بعض المبادرات والمحاولات ، قبل تأسيس شركة تهامة، للتغلب على تلك العوائق والصعوبات بإدخال تقنية جديدة توفر للشركات الكبيرة منفذا لم يكن متاحا من قبل لترويج منتجاتهم في السوق السعودية. وهنا سأسرد شيئاً من الذاكرة عن واحدة من تلك المبادرات بحسباني كنت طرفاً فيها.
تعود تلك المبادرة إلى عام 1968، في السنة الثانية من مرحلة دراستي الجامعية في الولايات المتحدة ، إذ قدر لي زيارة مدينة نيويورك في ربيع ذلك العام لإجراء مقابلة مع شركة استشارات هندسية أبدت ترحيبها بمنحي فرصة تدريب وعمل خلال فصل الصيف. في تلك الزيارة لفت انتباهي، إلى جانب ناطحات السحاب وأشياء أخرى، عرض إعلانات متحركة ملونة بالصوت والصورة على جدران المباني في المناطق التجارية المزدحمة من ''التفاحة The Apple'', وهو الاسم الذي يطلق أحياناً على تلك المدينة.
تقصيت الموضوع لتقويم ملاءمة استخدام تلك التقنية للإعلان في السوق السعودية، وكتبت للوالد ـ رحمه الله ـ عما شاهدت فأبدى استعداده لتبني الفكرة وتمويلها على أن أتولى مسؤولية شراء أجهزة العرض وشحنها مع بعض الشرائح الملونة Slides وأفلام تثقيفية قصيرة لجذب اهتمام التجار وإقناعهم بجدوى الفكرة. وانطلق المشروع في ذلك العام بتلك الإمكانات التقنية المحدودة في موقع اختاره ـ رحمه الله ـ في أرض فضاء في مدينة جدة على يمين القادم من طريق المدينة عند ميدان فلسطين بالقرب من الموقع الحالي لمركز (النخيل). إذ أقام هناك شاشة ثابتة لعرض تلك الشرائح والأفلام، ويبدو أن اختيار الموقع كان موفقاً، إذ لم يمض وقت طويل حتى بدأ البعض إبداء رغبتهم في الإفادة من تلك الخدمة. لكن ظهرت عقبة لم تكن متوقعة ألا وهي تدبير المادة الإعلانية التي لم تكن متوافرة لدى التاجر المحلي، وإنما كانت ملكاً للشركات الأجنبية, ومن ثم كان لا بد من التعامل معهم مباشرة.
استمر العمل في المشروع دون عوائد مالية تذكر أثناء التفاوض مع الشركات الأجنبية مثل ''بروكتر آند قامبل'' و''يونيليفر'' التي استغرقت وقتاً لكنها أثمرت في النهاية عن تعاون كان في مصلحة الطرفين. ذلك التعاون أدى إلى توسعة نطاق العرض ليشمل إلى جانب الشاشة الرئيسة مواقع أخرى، من بينها جدار إحدى البنايات في مدخل السوق الكبير في جدة الذي يربط بين شارع الملك عبد العزيز وشارع قابل، متنزه ''لونا بارك''، وإحدى صالات السينما باستغلال فترة الاستراحة لترويج بعض المنتجات الجديدة بين الجمهور. كما أخذ المشروع بعداً آخر بشراء أجهزة تصوير تم تدريب أحد العاملين فيه على استخدامها لإنتاج مادة صالحة للعرض لمصلحة بعض التجار المحليين.
مضى العمل في ذلك المشروع على ذلك المنوال لعدة سنوات إلى أن بدأ النشاط الإعلاني يتحول تدريجياً إلى صناعة تتطلب إمكانات مالية كبيرة وخبرات متعددة لم يكن لدى المشروع قدرة على مجاراتها.
تلكم كانت مبادرة مبكرة في نشاط الإعلان التجاري في المملكة أحسب أنها تشكل جزءاً من تاريخ ذلك النشاط رأيت سردها بينما بعض شهودها ما زالوا على قيد الحياة.