الخدمات الصحية الخاصة والأنظمة الحكومية!

قال المسؤول الصحي للمستثمر الذي كان يراجعه: إننا نريد منكم أن تنشطوا وتتوسعوا في مشروعاتكم .. فرد المستثمر: يا سيدي نحن لا نجرؤ أن نفكر الآن في التوسع! إن كل الذي نطمح إليه هو البقاء على قيد الحياة في المجال الذي نعمل فيه. لقد بات همنا الوحيد أن ننجح في تغطية تكاليفنا.. أملا في حدوث معجزة تغير الأوضاع وتمنحنا أملا في الاستمرار في نشاطنا, أو على الأقل تصفية نشاطنا وخروجنا بأقل خسائر ممكنة! يا سيدي إن القيود والاشتراطات الجديدة المتعلقة بأنظمة العمل والملكية, قد عصفت بنا وقلبت رأسا على عقب حساباتنا ودراسات الجدوى الاقتصادية التي أقمنا استثماراتنا بناء عليها. إننا نكاد نغرق ونبحث عن طوق نجاة. وأضاف قائلا: إن طبيعة معمل التحاليل الطبية الذي نديره بحاجة إلى تصريح عمل واحد لمهارة غير موجودة في سوق العمل المحلية, وهذا التصريح كان يكلفنا أربعة آلاف ريال وأصبح اليوم يكلفنا اثني عشرة ألف ريال! انتهى كلامه.
وعندما يغامر طبيب صاحب مستشفى خاص بإنشاء قسم عالي الكفاءة لمعالجة جراحات دقيقة كعمليات القلب المفتوح. ويقوم بتجهيزه بأحدث المعدات الطبية المتطورة ويستقطب له الكفاءات البشرية النادرة المكلفة, ليحقق عوائد على استثماراته من خلال تقديم خدمة محلية للمواطنين بتكلفة أقل من نظيرها في الخارج. ثم يفاجأ بمستشفى حكومي يعمل جزئيا وفقا لقواعد السوق ويقدم الخدمة بأقل من تكلفتها السوقية, لأن همه ليس تغطية التكلفة, وإنما مجرد توفير بعض الإيرادات للمستشفى عن طريق السوق والباقي ستغطيه الإعانات الحكومية, فهذا تخريب لقوى السوق وتدمير لقرارات الاستثمار القائمة على موازنة التكاليف مع العوائد. فإما أن يحصل الجميع على الإعانات أو يعمل جميعهم وفق مقتضيات السوق.
هذه كارثة استثمارية! وهذا ما ستؤول إليه الأمور بسبب السياسات الاقتصادية غير الموفقة. المعروف أن هناك ثلاث جهات تقدم الخدمات الصحية: الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات اللا ربحية. وكلها جهات مطلوبة في المجتمع. لكن لكل جهة قواعد واعتبارات في كيفية الإدارة, والخلط بينها لا يصح, ففي ذلك تدمير لمجمل الصناعة على الأمد الطويل.
تبحث بعض النظريات الاقتصادية الحديثة في كيفية تعظيم الاستفادة من العقود التي تتعارض مصالح أطرافها, ومنها ما يعرف بنظرية العقد المثالي ونظرية المباريات
Optimal Contract Theory & Game Theory))
وهذه النظريات تدل على أن أكثر الجهات الثلاث (الحكومية والخاصة واللا ربحية) كفاءة في تقديم الخدمات الصحية من الناحية التعاقدية هي المؤسسات اللا ربحية. لأنها تنجح أكثر في تخفيض حدة تعارض المصالح بين المريض والطبيب, وكذلك تخفيض درجة المخاطر الأخلاقية Moral Hazard التي يمكن أن تنشأ بينهما. ذلك أن سلامة العلاقة بينهما تعتمد على أمانة وصدق الطبيب في تحديد نوع وتكلفة الخدمة التي يحتاجها المريض. والمريض يريد الحصول على الخدمة بأقل تكلفة ممكنة والطبيب الخاص وهو مستثمر أيضا يريد تعظيم أرباحه. لكن المريض لا يعرف إن كان الطبيب الخاص سيكلفه ما لا هو بحاجة إليه من تكاليف إضافية كالعمليات الجراحية والتحاليل الطبية والصور بالأشعة ونحوها, بسبب عدم تساوي المعلومات بينهما. فالحوافز التي تحرك الطبيب الخاص (تعظيم الربح) تعمل ضد مصلحة المريض. لكل ذلك وجد المهتمون بدراسة طبيعة العلاقة التعاقدية بين من تتعارض مصالحهم ويكتنفها خطر أخلاقي, كما في حالة تقديم الخدمة الصحية من قبل القطاع الخاص, أن تقديم الخدمات الصحية من خلال مؤسسات لا ربحية يخفض مقدار هذا الخطر بدرجة كبيرة. وهذا هو بالضبط ما يفسر سبب كون أغلب الخدمات الصحية في الولايات المتحدة, تقدم من خلال مؤسسات لا ربحية وليس من خلال مؤسسات ربحية خاصة, على الرغم من الدور الكبير للقطاع الخاص في النظام الاقتصادي الأمريكي!
ولست أرى علاقة بين جودة الخدمة الطبية واشتراط وجود طبيب في ملكية المؤسسة الطبية الخاصة. فما علاقة طبيعة ونوع المالك بالاستثمار؟ فهل سيمارس المالك من غير الأطباء فحص المرضى صحيا؟ ولماذا لا نشترط ملكية المهندس لشركات المقاولات؟ إن المرء يفهم وجود شرط التخصص في تراخيص المكاتب الهندسية والمحاسبية والاقتصادية والعيادات الطبية الفردية التي يباشر المهنة فيها أصحابها, ولكن ليس في المؤسسات والشركات التي تقدم الخدمة من خلال المتخصصين. وإذا كان هناك ملاحظات بوجود مخالفات فنية ومهنية في مثل هذه المراكز أو المستوصفات الصحية التي يكون ملاكها من غير الأطباء, فهذا لا يعود لنوع المالك, وإنما للطبيعة البشرية التي لا يردعها إلا سيف القانون. فملكية طبيب لمستوصف أو مستشفى لن تمنع من الناحية النظرية المجردة وجود مثل هذه التجاوزات. وهذه التجاوزات يمكن أن تحدث حتى في المستشفيات الكبيرة المملوكة من قبل أطباء.
إن الفاصل في هذا ليس طبيعة المالك, وإنما وجود قوانين دقيقة وواضحة وفعّالة حول كيفية إنشاء وإدارة وممارسة الخدمات الطبية. ثم إشراف ومتابعة لصيقة ومباشرة على حسن أداء هذه المراكز سواء امتلكها طبيب أو غيره. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن انتشار مظلة التأمين الصحي لتشمل أكبر عدد من السكان سوف يساعد على ضبط جودة ومراقبة حقيقة تكاليف الخدمات الصحية المقدمة من القطاع الخاص. لأن الشركات أقدر على المراقبة والمحاسبة من الأفراد, كما أن لها مصلحة مباشرة في ذلك. بل إن شركات التأمين الصحي قد تعمل مع الزمن عندما تتراكم الأموال والاحتياطات لديها, على تمويل الإنفاق على البحوث والدراسات التي تعنى بتطوير وسائل السلامة في الأبنية والمركبات وبالصحة الوقائية لأفراد المجتمع, أي بتشجيع الناس وإرشادهم على كيفية الوقاية من المكاره الصحية قبل وقوعها.
إن تشريع الأنظمة والقوانين المؤثرة في أنشطة الاستثمار يجب أن يتصف بالاستقرار وقابلية التوقع. ولا ينبغي أن تتعرض للتغير ما لم تكن هناك أسباب قوية وموضوعية لذلك, مبنية على أسس موضوعية وعلمية, وليس على اجتهادات ظنية تتساوى فيها الاحتمالات.
ليس هناك شك في حسن نوايا المنظمين, لكنها وحدها لا تكفى لصحة وسلامة الإجراءات والمآلآت. علينا أن نتذكر دائما طبيعة عمل القطاع العام والقطاع الخاص, وأثر الحوافز في الطبيعة البشرية. إن المراقب ليحتار أحيانا! مع من تتعامل بعض الأنظمة والقوانين؟ مع أعداء للوطن؟ أم مع مواطنين؟ ولمن ولماذا تُشرّع؟ أهي لخدمة المستثمرين وتشجيعهم على ولوج المشاريع بغرض تشجيع توطين رأس المال الوطني وتوفير الخدمات للناس؟ أم لعقابهم على أخذهم زمام المبادرة في تحمل مخاطر الاستثمارات المجدية التي تسهم في زيادة الدخل الوطني؟ ألم يكن بمقدور هؤلاء المستثمرين أن يضعوا أموالهم في أنشطة سهلة غير منتجة وطنيا - وان كانت مربحة لهم على المستوى الفردي - كالمضاربات في أسواق الأسهم والأراضي؟
في تصوري أن المجتمع في حاجة إلى لمجمعات الطبية الصغيرة, وكذلك مشاريع المستشفيات الكبيرة. وإذا كان تطور عدد السكان يستدعي وجود الصروح الطبية الكبيرة, فما أجمل أن نبدأ التفكير في إنشاء مؤسسات وقفية لا ربحية كبيرة تأخذ على عاتقها إقامة هذه المشاريع الصحية في مختلف أنحاء البلاد, جنبا إلى جنب مع الخدمات الحكومية والخدمات الخاصة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي