مفهوم الشرعية الدولية ومصادرها
يتردد كثيراً على ألسنة الساسة وفي وسائل الإعلام مصطلح (الشرعية الدولية)، فما المقصود من هذا المصطلح؟ أحاول في السطور التالية الإجابة عن هذا التساؤل بإيجاز, فأقول ما يلي:
يقصد بمصطلح (الشرعية) في علم القانون سيادة حكم القانون. ومفهوم ذلك في القانون الداخلي (الوطني) خضوع السلطات العامة في الدولة والمواطنين للقانون, بمعنى أن تكون جميع تصرفات السلطات العامة والأفراد متفقة مع القواعد القانونية السارية. والقواعد القانونية التي يتكون منها النظام القانوني للدولة ترتبط ببعضها ارتباطاً تسلسلياً، فهي ليست جميعاً في مرتبة واحدة من حيث القيمة والقوة القانونية, بل تتدرج فيما بينها بما يجعل بعضها أسمى مرتبة من البعض الآخر فنجد في القمة الدستور الذي يعد أعلى مرتبة من القانون الصادر عن السلطة التشريعية، ويعد القانون بدوره أعلى مرتبة من اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية. ويترتب على مبدأ تدرج القواعد القانونية وجوب خضوع القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى من حيث الشكل والموضوع أي صدورها من السلطة المختصة التي حددتها القاعدة القانونية الأسمى وباتباع الإجراءات التي بينتها وأن تكون متفقة في مضمونها مع مضمون القاعدة الأعلى مرتبة فإذا خالفتها أو صدرت على خلاف الإجراءات المحددة كانت القاعدة الأدنى باطلة وانعدمت آثارها. وأول وأهم ضمان للشرعية هو رقابة القضاء لأعمال الإدارة أي السلطة العامة، بمعنى آخر إذا تجاوزت الإدارة في أعمالها حدود القانون جاز لكل ذي مصلحة أن يطعن أمام الجهة القضائية المختصة في تصرف الإدارة ويطلب إلغاءه أو التعويض عن أضراره وذلك حسب الأحوال. ومفهوم مصطلح (الشرعية) على المستوى الدولي لا يبعد كثيراً عن مفهومه على المستوى الداخلي، إذا يقصد بالشرعية الدولية وجوب تطبيق قواعد القانون الدولي العام على سائر التصرفات التي تصدر عن الأشخاص المخاطبين بهذا القانون وهم أساسا الدول والمنظمات الدولية.
ومصادر الشرعية الدولية هي مصادر القانــون الدولي نفسها التي حددتها المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وهي:
1 – الاتفاقيات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.
2 – العرف الدولي المقبول بمثابة قانون كما دل عليه تواتر الاستعمال.
3 – مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدينة.
4 – أكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم كمصدر احتياطي لقواعد القانون, وذلك مع مراعاة المادة (59) التي تنص على أنه لا يكون للحكم قوة الالتزام إلا بالنسبة لمن صدر بينهم وفي خصوص النزاع الذي فصل فيه. ولا يترتب على نص المادة (38) سالفة الذكر أي إخلال بما لمحكمة العدل الدولية من سلطة الفصل في القضية وفقاً لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف الدعوى على ذلك. ويلاحظ مما تقدم أن قرارات المنظمات الدولية لم ترد كمصدر من مصادر القانون الدولي في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ويرجع بعض فقهاء القانون الدولي سبب ذلك إلى أن الذين صاغوا ذلك النظام في عام 1946م، لم يتوقعوا إمكانية أن تكون قرارات المنظمات الدولية مصدراً من المصادر الرسمية للقانون الدولي ولكن التطور فرض نفسه، فيما بعد فأصبحت قرارات المنظمات الدولية مصدراً رسمياً مكتوباً من مصادر القانون الدولي، ولكن لا يكون قرار المنظمة الدولية صحيحاً وملزماً إلا إذا صدر طبقاً لأحكام المعاهدة المنشئة للمنظمة الدولية وأنظمتها المعتمدة، فمثلاً يكاد يجمع فقهاء القانون الدولي على أن ميثاق الأمم المتحدة يتمتع بطبيعة دستورية تجعله يعلو ويسمو على جميع الأعمال القانونية الصادرة من أجهزة هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها, وكذلك تجاه التصرفات التي تأتيها الدول الأعضاء على مستوى العلاقات الدولية، وأن أي قرار تصدره الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي ينبغي أن يكون من حيث الشكل والموضوع متفقاً مع أحكام الميثاق وإلا كان باطلاً. ونضرب هنا مثلاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947م بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، حيث اعتبر عديد من فقهاء القانون الدولي هذا القرار باطلاً لأسباب قانونية عديدة ومنها أن الجمعية العامة تجاوزت اختصاصاتها المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، فالمادة (14) التي استندت إليها الجمعية العامة لا تخولها حق اتخاذ قرار في هذا الشأن، وإنما مجرد توصية غير ملزمة إلا أن قرار التقسيم تجاوز حدود التوصية فضلاً عن أن الجمعية العامة لا تملك سلطة التصرف في مصير إقليم لا تملك السيادة عليه. ومن المفارقات أن العرب رفضوا هذا القرار وقت صدوره لعدم شرعيته بينما قبله اليهود وأسسوا دولتهم إسرائيل بناء عليه ثم أدى عجز الدول العربية عن إزالة آثار حرب 1967م بسبب اختلال موازين القوى اختلالاً جسيماً لصالح إسرائيل إلى قبول منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية بتسوية سياسية للقضية الفلسطينية أكثر بخساً مما قرره قرار التقسيم، ومع ذلك ترفض إسرائيل هذه التسوية وتستمر في سياسة التوسع وإقامة المستوطنات اليهودية وهدم منازل الفلسطينيين وترحيلهم من ديارهم. أما بخصوص قرارات مجلس الأمن الدولي فإنها لا تكتسب صفة (الشرعية) إلا إذا توافرت فيها شروط معينة، وقد تناولها بالتفصيل الدكتور حسام أحمد محمد هنداوي، أستاذ القانون الدولي في جامعة القاهرة في كتابه القيم (حدود وسلطات مجلس الأمن في ضوء قواعد النظام العالمي الجديد). ونلخص هنا هذه الشروط, ضاربين لتوضيحها بعض الأمثلة من القضايا الدولية وذلك على النحو التالي:
1 – التقيد بالأهداف الخاصة بمجلس الأمن:
إن مجلس الأمن غير مطلق اليد في إصدار ما يشاء من قرارات، وإنما تتقيد سلطته في هذا المجال بالأهداف التي يلقي بها على عاتقه ميثاق الأمم المتحدة، فإذا أخذنا في الحسبان أن المادة (24/1) من الميثاق قد عهدت إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسة في أمر حفظ السلام والأمن الدوليين، لأصبح من الواجب على المجلس توخي تحقيق هذا الهدف فيما يصدره من قرارات، حتى يمكن نعتها بالشرعية. أما إذا استهدف مجلس الأمن من وراء إصدار قراراته تحقيق أهداف أخرى غير المحافظة على السلم والأمن الدوليين، فإن ذلك يمكن أن يشكل ما أطلق عليه الفقه الدولي الانحراف بالسلطة. إن انحراف مجلس الأمن بالسلطة التي خوله إياها ميثاق الأمم المتحدة يمكن أن يترتب عليها نعت القرارات الصادرة عنه بعدم الشرعية.
وترتيباً على ذلك، شكك بعض فقهاء القانون الدولي في شرعية قرار مجلس الأمن رقم 748 في 31 آذار (مارس) 1992م الخاص بمطالبة ليبيا بتسليم مواطنين ليبيين لتورطهما في تفجير طائرة أمريكية فوق لوكربي بأسكتلاندا عام 1988م. وأسسوا رأيهم في انفصام الصلة بين المطالبة بتسليم هذين الليبيين وبين المحافظة على السلم والأمن الدوليين، نظراً للبعد الزمني بين واقعتي التفجير والمطالبة بالتسليم، الأمر الذي يندر معه تأزم العلاقات بين الدول الغربية وليبيا على النحو الذي يمكن أن يهدد السلم والأمن الدوليين بالخطر. وإنه كان من الأجدى، والأمر هكذا، البحث عن حل لهذه المشكلة عن طريق المباحثات الدبلوماسية المباشرة بين الأطراف المعنية أو اللجوء للتحكيم أو القضاء الدولي، وليس عن طريق إقحام مجلس الأمن في مثل هذه المشكلة التي تبتعد كثيراً عن نطاق أهدافه.
ولكن يبدو أن مجلس الأمن قد أراد إغلاق الباب أمام هذه الدعاوى، فحرص في هذا القرار على الربط بين أعمال الإرهاب الدولي والمحافظة على السلم والأمن الدوليين، حيث قال (واقتناعاً منه بأن وقف أعمال الإرهاب الدولي، بما فيها الأعمال التي تشارك فيها الدول بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ضروري لصون السلم والأمن الدوليين). وهكذا يرى مجلس الأمن أن ما تمثله أعمال الإرهاب الدولي من تهديد للسلم والأمن الدوليين يشكل السبب الحقيقي لتدخله في هذه الأزمة. ومهما يكن من أمر فقد انتهت قضية لوكربي إلى إذعان ليبيا للمطالب الأمريكية ودفعت تعويضات ضخمة لعائلات ضحايا الطائرة المنكوبة، وتلك قصة أخرى لسنا هنا بصدد الحديث عن تفصيلاتها، ولكن يمكن القول بصفة عامة إن ترجيح رأي على رأي آخر حول مشروعية قرارات مجلس الأمن ينبغي أن يعهد به إلى جهة أخرى محايدة كهيئة تحكيم أو محكمة دولية، حتى لا يكون طرف واحد حكماً وخصماً في الوقت ذاته. ولكن للأسف لم يتطور النظام القانوني الدولي إلى حد إخضاع مشروعية جميع قرارات مجلس الأمن للرقابة القضائية لمحكمة العدل الدولية.
لكن أكثر قرارات مجلس الأمن ظاهرة البطلان تلك التي أصدرها بعد الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق، فبدلاً من أن يدين المجلس الحرب العدوانية التي شنتها أمريكا وبريطانيا على العراق دون أي مسوغ قانوني، أصدر قرارات قننت احتلال العراق وكبلته بقيود انتهكت سيادته واستقلاله وكانت تلك القرارات من أكثر القرارات انحرافاً عن قواعد القانون الدولي.
2 – الالتزام بالاختصاصات الخاصة بمجلس الأمن:
ينبغي على مجلس الأمن أن يلتزم عند إصدار قراراته ليس فقط بالأهداف التي يضطلع بها وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وإنما كذلك بحدود الاختصاصات التي يتمتع بها صراحة أو ضمنا إعمالاً لنصوص هذا الميثاق، حيث لو جاءت هذه القرارات بالمخالفة لهذه الاختصاصات لوجب القول بعدم شرعيتها. فلو افترضنا صدور توصية من مجلس الأمن مستوفية جميع شروط الصحة الإجرائية والموضوعية، بشأن قبول عضو جديد بالأمم المتحدة دون انتظار قرار من الجمعية العامة في هذا المجال كما تتطلب ذلك المادة 4/2 من الميثاق، فإن هذه التوصية تعد عملاً غير شرعي لتجاوز مجلس الأمن حدود السلطات التي تمنحها إياه هذه المادة.
واجد من المناسب أن أشير هنا إلى أن بعض فقهاء القانون الدولي يرون أن قرارات مجلس الأمن الخاصة بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية لا تتوافر فيها صفة الشرعية لأسباب عدة أهمها أن أحكام هذه القرارات تعد خروجاً من مجلس الأمن عن المفهوم القانوني للاختصاصات التي حددها ميثاق الأمم المتحدة لأجهزة المنظمة وما استقر عليه العمل الدولي في هذا الشأن، وتلك أيضا قصة أخرى يضيق المجال هنا عن شرحها شرحاً مفصلاً.
3 – التقيد بالقواعد الإجرائية المتعلقة بممارسة المجلس اختصاصاته:
تلتزم أجهزة المنظمات الدولية باحترام القواعد الإجرائية الخاصة بممارسة اختصاصاتها المختلفة، حيث إن مخالفة هذه القواعد يمكن أن يترتب عليها عدم شرعية القرارات الصادرة عن هذه الأجهزة. ولقد أتيحت الفرصة لمحكمة العدل الدولية لتأكيد هذا المعنى في عديد من المناسبات.
وترتيباً على ذلك يمكن القول إن القواعد الإجرائية أو الشكلية التي تتعلق بكيفية إصدار مجلس الأمن قراراته المختلفة تشكل أساسا متيناً لإمكان القول بشرعية أو بعدم شرعية مثل هذه القرارات. فإذا صدرت هذه الأخيرة إعمالاً للقواعد الإجرائية أو الشكلية لتعين القول بشرعيتها. أما إذا اتخذت بالمخالفة لهذه القواعد، لكان من الواجب القضاء بعدم شرعيتها.
4 – خضوع تنفيذ قرارات مجلس الأمن لإشراف ورقابة الأمم المتحدة:
رسم ميثاق الأمم المتحدة إطارا محدداً لإمكانية تنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين. ويضمن هذا الإطار خضوع عملية التنفيذ لرقابة وإشراف الأمم المتحدة. الأمر الذي يضمن عدم انحراف القوات التي تقوم بأعباء هذا التنفيذ عن الأهداف التي يتوخاها المجلس من إصدار هذه القرارات. على العكس من ذلك، فإن تخلي الأمم المتحدة عن هذه المهمة لدولة أو أكثر من الدول المشاركة في عملياتها العسكرية من شأنه فتح الباب واسعاً أمام انحراف هذه الدول بتلك العمليات من الأهداف المحددة لها.
ويذهب بعض فقهاء القانون الدولي العام إلى أن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الخاصة بمكافحة الإرهاب الدولي في أفغانستان عقب أحداث 11/9/2001م تتسم بالبطلان لأسباب عدة أهمها أن مجلس الأمن تخلى عن اختصاصاته بشأن عمليات القمع والردع، المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة إلى دولة معينة هي الولايات المتحدة التي قامت بعد ذلك وحلفاؤها بجميع العمليات العسكرية في أفغانستان دون أي رقابة سابقة أو لاحقة من مجلس الأمن.
نخلص مما سبق إلى أن أي قرار يصدره مجلس الأمن لا تتوافر فيه الشروط المذكورة آنفاً لا يكتسب صفة (الشرعية) مهما تقادم عليه الزمان وأن إجبار الدول المعنية على تنفيذه تحت تهديد استعمال القوة أو باستعمالها فعلاً من قبل الدول الكبرى لا يجعل القرار الباطل مشروعاً.
هذا هو المفهوم العام للشرعية الدولية التي تزعزعت قواعدها في عصر الهيمنة الأمريكية.