مشكلة فهم التراث العمراني
وافق أمس الأول اليوم العالمي للتراث الذي أقرة المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة)، لذا خصصت هذا المقال لمناقشة أسلوب تفاعل المعماريين مع التراث العمراني والمعماري. يمثِّل التراث العمراني جزءاً من الموروث الشعبي لأي مجتمع – بل هو موروث للمجتمع الإنساني بكامله، كما يعد عنصراً مهماً في هوية المجتمع الوطنية وإرثه الثقافي، بكل ما تحويه المباني التراثية من أفكار ثقافية، وقيم اجتماعية، ومعانٍ رمزية، وأشكال جمالية، ومعالجات مناخية، وحلول هندسية أو تقنية، والتي رُوعيت - في الأساس - لتتوافق مع معطيات الزمان الذي أنتجت فيه تلك المباني والأعمال المعمارية، ولتستجيب بشكل متفاعل مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمناخية والتقنية المحيطة بها في ذلك الوقت، وضمن القدرات والخبرات المتوافرة في حينها لدى أفراد المجتمع. لذا يجب أن ندرك أن تلك الأعمال والمباني المعمارية في تراثنا العمراني ما هي إلا محصلة لمجموعة كاملة من القيم والأفكار والمعاني والأشكال والمعالجات والحلول التي سادت في زمانها، وهذه المجموعة هي التي عملت على تشكيل المباني التراثية وتكوينها، فالمباني التراثية ليست نتيجة لعامل واحد فقط، ودليل ذلك التنوع الكبير في نماذج العمارة التراثية في المملكة العربية السعودية.
ومما لا شك فيه أن للتراث الثقافي والفني بأشكاله جميعها - والمعماري منها بشكل خاص - مكاناً خاصاً في وجدان غالبية الناس وبالذات المثقفين والفنانين، فهو يشعل لديهم الحنين للزمن الماضي بأبعاده كلها، ويستجلب تعاطفاً من نوع خاص يضفي على المباني التراثية شيئاً من الأهمية، ولا غرابة في ذلك، بل هو ما جعل اليونسكو - ومنذ اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي في عام 1972م – تطلق مجموعة من المبادرات الدولية لحماية المباني التراثية والمواقع العمرانية التراثية على مستوى العالم، بل وحتى بعض المدن التراثية بصفتها جزءاً من التراث الإنساني المشترك؛ لذا يتحتم علينا العناية بتراثنا المعماري والعمراني السعودي والحفاظ عليه من التدهور والاندثار، واستصلاحه وتوظيفه ليصبح رافداً اقتصادياً من روافد صناعة السياحة المحلية، والعمل بجدٍّ على فهم جميع العوامل المشكلة له، واستخلاص المفاهيم التي أنتجته؛ لأهميتها في تحديد هويتنا العمرانية الوطنية.
اندفاع بعض المعماريين لإنتاج مبانٍ ذات صبغة تراثية دون معرفةٍ صحيحة بالمفاهيم التي قامت عليها المباني والأعمال التراثية؛ يدفع بهم إما إلى إنتاج مبانٍ مماثلة تماماً للمباني التراثية السابقة في خصائصها جميعها، وذلك لعدم إدراكهم أن المباني التراثية السابقة كانت نتاج مجموعة من العوامل السابقة التي تغَّير كثير منها مع مرور الزمن، ودليل على عجزهم عن استيعاب العوامل المستجدة والمؤثرات المعاصرة وجعلها جزءاً من العملية التصميمية؛ أو يلجأون إلى محاكات أشكال المباني التراثية في أعمالهم، ولكن بأسلوب سطحي على الواجهات الخارجية للمبنى من خلال استخدام بعض مفردات العمارة التراثية (من: التكوينات أو الأشكال أو الفتحات أو الألوان أو غيرها) بصفتها رموزاً فقط لا تحقق الأهداف أو الوظائف التي أوجدت من أجلها في المباني التراثية، وهو ما يجعلها مشابهة لعملية إضافة مساحيق «المكياج» على أوجه الممثلين في المسرحيات الهزلية، فيظهر نتيجة لذلك نوع من المباني «المسخ» أو «المزيفة» التي لا تعبر عن حقيقتها ولا تمتُّ إلى محيطها بصلة.