حوار الوطن وزرع الوفاء!!
عُدت إلى سكني بعد سفر طويل خارج ربوع الوطن الغالي فإذا بحمامة بيضاء غاية في الجمال قد اتخذت من إحدى النوافذ بيتاً لها، لقد اختارت نافذة الدرج فكانت عصية الوصول على أبنائي، إلا أنها ذات واجهة شمالية تهب بها هوج الرياح «بهاب الترب موار» في الصيف وبرودة قارسة في الشتاء، جلست ذات يوم على إحدى عتبات الدرج أتأملها بلونها الأبيض الثلجي المتلألئ مع إشراقة الشمس الساطعة.. تارةً تفرِدُ جناحيها بريش دقيق النسق بهي المنظر، وتارةً تتلفت في تبختر وغنجة عجيبة.. يسطع معها لون زمردي كالحلة البهية فوق عنقها، أسرني المنظر وسافرت بي الذكريات مع الشعر العربي الأصيل بل والشعبي الحديث، فلطالما تغنى بالحمامة الشعراء كرمز للحب عند شاعر وللضعف، والحزن عند آخر، وللوصال والوفاء عند آخرين، تذكرت قصيدة شعبية جميلة للشاعر سليمان بن شريم ـ رحمه الله ـ حينما رأى حمامة تنوح فوق نخلة خضراء فذكّرته بأحزانه على فراق بعض من خلانه فقال مما قال:
يا حمامة تغــــرّد فــــــــوق خضـــــر الجـــريـد
هيضتني وشــــاني مفخـتٍ شــــانهـا
جعلــــــــــها الله لــــراعي شـــوزنـــيّ يجيـــــــد
يكسر النايفة من ريـش جنحانهـا
ذكــــرتني هـــــوى اللي مثل عنق الفــريد
قبـل تدهكنـي الأيــــــام بأحــــــزانــــها
لا سقـى الله على قـــلبي نهـــــار الشـــــديـــد
يــــوم فرقـــا العيون لشـوف حيانهـا
كل ما قلت طاب الجرح عوّد من جديد
يـــــوم فـــــارقـت منزلـــــهـا وبلدانـــهـا
الهــــــــــــوى طـــــالبـــه لامــات كـنـه شهيـد
والمحبــــة كثيـر النـاس ما صـانهـا
لذة العمـــــر تنقص و الليـــــالي تـــــزيـــــد
سنـــــة الله بأهـــالــيها وسلطـــانها
ملاحظة: تمت الكتابة بهذا الشكل تجاوزاً لقيام الأبيات حسب ألفاظها الشعبية.
ثم تذكرت قصيدة أبي تمام في جارته الحمامة حينما خاطبها بالشعر ومما قال:
أقُولُ وَقَدْ نَــــــــــاحَتْ بِقُرْبي حمــــــــامــــَةٌ
أيَا جَارَتَـــا، هَلْ تَشعُرِينَ بِحَالي
أيَا جَــــــارتَـــا ما أنْصَــفَ الــــدّهْـــرُ بَينَنا
تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمـــــُومَ تَعَالِ
تَعَــــــــالَيْ تَــــــرَيْ رُوحـــــــاً لــــدَيّ ضَعِيفَةً
تَـــرَدّدُ في جِسْــــمٍ يُعَـــــذّبُ بَــــالــي
أيَضْحَكُ مــــأسُـــــــورٌ وَتَبكي طَلِيــــــقَـةٌ
وَيَسْكُتُ مَحـــــزُونٌ وَيَنـــدبُ سالِ؟
لَقد كنتُ أوْلى مِنــكِ بالدّمعِ مُقلَةً
وَلَكِنّ دَمْـــعي في الحَــــوَادِثِ غَـــالِ
لقد أوقفني وصفه لنفسه بالمأسور والحمامة بالطليقة فنظرت للحمامة في دهشة وقد تبادرني لها سؤال المحتار ما يُبقيك في هذه الديار المتصحرة ويُصّبرك على ظمأ الهجير لم لا تنطلقي في الفضاء ككل الطيور المهاجرة إلى جنان الله في أرضه ذات الخضرة والماء والدفء والأمان، حيث لا حدود تمنعك ولا رسميات تردعك وقد حباك الله قدرة على الطيران لمسافة أكثر من 1600 كيلومتر.. تلفتت ذات اليمين وذات الشمال في حركة متقطعة ثم طأطأت رأسها وكأني بها تسخر من سؤالي كيف أهاجر وأترك وطني؟! هذا الذي خُلِقتُ فيه وتربيت من خيرات الله فيه .. أشرب من مائه وأتنفس هواءه.. كيف ونحن من يُضرب المثل بإخلاصه ووفائه.. سبحان الله!!.. نعم صدقت أيتها الحمامة فهو الله إن للوطن حنينا عند كل مغترب مهما رأى من جنان الدنيا البعيدة .. فجمالها ينطفئ واخضرارها يبهت في نفس المشتاق فلا يرى أجمل ولا أحب من وطنه الذي تركه، وصدق «خير الدين الزركلي» حينما قال:
العين بعد فراقها الوطنـــــــا
لا ساكناً ألِــــفت ولا سكنــا
ريــــــــــانة بالــــــدمع أقــــلقـــها
أن لا تحس كرىً ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحةٍ
حسنــا وبــاتت لا ترى حسنا
نم صدقت أيتها الحمامة الوفية، وقد ذكرني وفاؤك بوفاء سيد الأوفياء وقدوة البرية محمد رسول الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما وقف بالحزورة وقد عزم على الخروج من مكة مهاجرًا إلى المدينة فقال متحسرًا: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خرجت»، لقد ذكرتني بوفائه لوطنه ولأمته، حتى الجبال الصم يقول عنها ـ صلى الله عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه»، بل تعدى ذلك الوفاء لمسامحته لمن رفضوا دعوته وإجارته وسلطوا عليه الصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه حينما جاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يُطبق الأخشبين عليهم فيرفض ويقول: «.. فإني أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله..»، عجبي لمن يملك هذه القوة التي هي أقوى من كل المتفجرات فيسامح من أعرض عنه وكفر به وآذاه، رحمة بهم ورغبة في دعوتهم وتحقيق مراد الله في دعوته، فأين من يفجرون الآمنين في بلدانهم والمسالمين في أوطانهم أطفالاً ونساء وشيوخاً بدعوى الجهاد!! أين هم من خُلق النبي عليه الصلاة والسلام الذي ادّعوا أتباعه، أين هم من سماحته وكريم خصاله وأهداف دعوته ومنهجه القويم، لله ما أحلمه حينما دخل مكة منتصراً شامخ الرأس على قوم كفروا به واحتقروه وأهانوه وطردوه وطاردوه وحاربوه قريباً وبعيداً لسنوات وقتّلوا أحب الناس إليه فيقول لهم: «ما تقولون وما تظنون؟ قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم، حليم، رحيم. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: أقول كما قال يوسف: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» السنن الكبرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
ما أحوجنا إلى زرع الوفاء للوطن الغالي في نفوسنا ونفوس أبنائنا، ليدافعوا عنه وعن دينه ومقدساته وأهله، ليرعوا الأمانة في أعمالهم وفي ا استودعهم الله عليه من حقوقه وحقوق من سكنوه، ليحافظوا على جمال أرضه ونقاء هوائه، ليميطوا الأذى عن طرقه ويحققوا النظام في جنباته، ليرفوا رايته خفاقة في كل بقاع الدنيا وينشروا بشائره فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولله در أحمد شوقي حينما قال:
وللأوطـــان في دم كــــل حــــرٍّ
يـــــد سـلـفــت وديـن مستحـقُّ
ودمتم بخير وسعادة.