قوافل المبتعثين وتحديات ما بعد العودة
بدأت قوافل الابتعاث الخارجي للدراسات الجامعية والعليا انطلاقتها قبل سنوات قليلة ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث بلفتة استراتيجية كريمة منه ــ حفظه الله ــ ليلبي الاحتياج الكبير للوطن من المؤهلين علمياً بالتوازي مع انطلاق عدد من المشاريع التنموية الضخمة كالمدن الصناعية والتوسع في افتتاح الجامعات وغيرها ، كما جاء ليروي عطش الطامحين من أبناء الوطن لتعليم جامعي راق وناضج كنا أحوج ما نحتاج إليه، وقد رافق حملات هذا البرنامج بداية لحملة تغيير وتطوير مباركة لكوادر التعليم العالي وسياساته الإدارية والأكاديمية وجامعاتنا الوطنية والتوسع في افتتاح جامعات ومراكز أبحاث جديدة ذات مواصفات نوعية.
كل هذا النشاط جاء بدافع استثمار الشباب الذين هم أمل الأمة في غدٍ مشرق ننهض فيه من سبات الفوضى واللامبالاة والعمل لأجل الذات فقط إلى العمل بروح الجماعة مع عشق للنظام ورغبة في الإنتاج أكثر من الاستهلاك وحماس واستعداد لخوض التحديات في مضمار سباق الأمم والحضارات مع ثقة بالنفس والمجتمع والوطن، ولعل من محاسن الابتعاث رؤية هذه الصفات في المجتمعات الغربية والشرقية وكيف جعلت من بلدانهم دولاً قوية اقتصادياً وسياسياً وذات قرارات مؤثرة على مستوى العالم، هذا رغم وجود الفراغ العاطفي الكبير لدى معظمهم بسبب التفكك الأسري وانتشار تعاطي المخدرات والمسكرات بشراهة والشذوذ وانتشار الجريمة المنظمة، فكيف بنا إن استطعنا النهوض بمستوانا الحضاري العلمي والعملي وحافظنا على قيمنا الدينية والاجتماعية الجميلة «فالحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق الناس بها»، مع تأكيد أن معظم تلك القيم التي تعجبنا في القوم هي من أصول ديننا الحنيف وعلى رأسها حسن الخلق مع الناس، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» والشواهد على ذلك كثيرة.
هذا التفاؤل جاء إلى نفسي عندما اختلطت بعدد من الطلاب السعوديين المبتعثين أثناء دراستي في بريطانيا وأكثرهم من طلاب الدراسات العليا – ماجستير ودكتوراه - وقد شاهدت الحماس الكبير في نفوسهم للدراسة والبحث العلمي وشدة إعجابهم بأنظمة المرور والتزام الناس بها وبالنظافة العامة وصحة البيئة وحرص الناس الشديد عليها ونظام العمل وحرص الناس الكبير على إعطائه حقه وكثير من السلوك والأخلاقيات الجميلة في تعامل الناس مع بعضهم في الطرقات والأماكن العامة، فدعوت الله أن يثبتهم على هذا الحماس وعلو الهمة في تغيير الواقع في بلادنا لما هو خير مما هو أصلاً من أخلاقيات الإسلام التي ابتعدنا عنها.
قبل أيام اجتمعت في مناسبة مع عدد من زملاء الدراسة ممن تخرجوا وعادوا إلى أعمالهم أو التحقوا بأعمال جديدة من حملة الدكتوراه أو الماجستير ومن تخصصات مميزة ومعظمهم من البارزين والمميزين علماً وخلقاً، وأثناء تبادل الأحاديث إذا بأحدهم يستفتح حديثه بزفرة المتضايق بسؤال الجميع من منكم طبق ما تعلمه في تخصصه من علوم ومنهجيات علمية رائعة أو أساليب عملية جميله في واقعه العملي؟ وإذا بالأجوبة تميل إلى سلبية الحال وتلحقها أسئلة وأسئلة كل منها يستحق الوقوف عنده وبعد التقصي من مبتعثين آخرين إذا بالحال يكاد يكون ظاهرة تستحق النقاش مع الإخوة المسؤولين في التعليم العالي للإجابة عن بعضها ومناقشة البعض الآخر.
وهنا وعلى غير العادة أحب أن أختم المقال ببعض من تلك الأسئلة فقط ، على أن أجيب عنها في المقال المقبل أو الذي يليه ــ إن شاء الله ــ بعد أن أتلقى بعض الإجابات أو التعليقات من المسؤولين في وزارة التعليم العالي وأتلقى بعض التفاعل من الإخوة المبتعثين سابقاً حول تجاربهم في التغلب على تحديات تطبيق ما تعلموه في واقعهم العملي وغيرها من التحديات.
من أبرز تلك الأسئلة ما يلي:
أولاً: لا شك في أن ابتعاث الشباب بهذه الأعداد الكبيرة التي ربما تجاوزت 40 ألفاً حتى الآن هو نوع من الاستثمار المكلف في مجال القوى البشرية مما يتطلب من وزارة التعليم العالي والوزارات ذات الصلة التنسيق لمتابعة مخرجاته ضمن خطة عمل استراتيجية تضمن تحقيق البرنامج لأهدافه التنموية مستقبلاً وإلا أصبح استثمارا خاسرا, فهل يوجد هذا النوع من التنسيق لمتابعة الخريجين و الحرص على توظيفهم في مجال تخصصاتهم؟
وهل هناك أي نوع من التواصل معهم بعد تخرجهم لتقييم تجاربهم في الابتعاث؟
ثانياً: هناك نوعان من الدراسة لمرحلتي الماجستير والدكتوراه هما البحث العلمي – Research- الذي يناسب الأعمال البحثية الآخر هو الحصص الدراسية - Taught Courses – وهو يناسب الأعمال الأكاديمية، والغريب أن بعض الخريجين عند تقدمهم للعمل في بعض الجامعات يتم رفضهم بحجة أن دراستهم كانت بحثية، بينما يتم توظيف خريجي الحصص الدراسية في الأعمال الأكاديمية والبحثية، فهل هذا المنطق ضمن معايير مبررة أم هو خطأ يحتاج إلى تصحيح؟
ثالثاً: ما الأسلوب العملي الأمثل الذي يستطيع فيه المبتعث تطبيق ما تعلمه في تخصصه من علوم حديثة وأساليب أو منهجيات عمل رائعة غير مطبقة في جهة عمله دون أن يصطدم بزملائه أو مسؤوليه؟
سيتم مناقشة هذه الأسئلة وأسئلة أخرى في الجزء الثاني من المقال ، بينما هناك بعض الأسئلة يناسبها الطرح في مقالات منفصلة ــ إن شاء الله.