الفساد في غياب الإخلاص والرقيب لا ينجو منه مشروع وجدة مثالا (2)

كشفت كارثة جدة ما لم تكشفه لجان تسلم المشاريع من غش وتلاعب من جانب المنفذين وتهاون وتواطؤ من جانب المشرفين, سواء كان الإشراف مباشرا, تقوم به الجهة صاحبة المشروع ذاتيا, من قبل مهندسين تابعين لها, فيما يتعلق بالمشاريع الصغيرة, أو عن طريق التعاقد مع مكاتب استشارية بالنسبة للمشاريع الكبيرة, ويعزى ما كشفت عنه الكارثة من تهدم وانهيارات وتصدعات إلى ضعف الجانب الإشرافي الفني, أو انعدامه كلية, وهو ما أظهر المشاريع وكأنها بنيت أو أسست على قصب أو قش, بحيث استسلمت لأول اندفاع للسيول, وظهرت أساساتها وطبقاتها لتعبر للملأ عما في بطونها, دون أن يستثنى من ذلك أي نوع من المشاريع. وقد انبرى من انبرى لإحالة العيب إلى نظام المنافسات الحكومية, وأن الخلل يكمن في المبدأ الذي يقوم عليه النظام, وهو الأخذ بأقل الأسعار في ترسية المشاريع, وأنه هو السبب في عدم القدرة على تنفيذ المشاريع بالجودة والمستوى المطلوبين! مغيبين عن أذهانهم وأقلامهم حقيقة الوضع الواقعي للمشاريع, التي تنبئ عن أنه حتى لو لم يؤخذ بمبدأ أقل الأسعار فإنه في غياب الإشراف أو تواطؤه مع المنفذ, فلن يكون المشروع أحسن حالا مما انكشف, حتى لو كانت الأسعار ضعف ما جاء في العقد! أما إذا قام المنفذ بالتنازل عن المشروع بالكامل لمنفذ آخر, بعلم الجهة أو من دون علمها, كما هو حاصل أحيانا, فإنه سيقوم باقتطاع نسبة من قيمة العقد لمصلحته, ولو قام المتنازل إليه بتنفيذه من الباطن, كما يحصل أيضا أحيانا, فإنه سيحصل على جزء من العقد, ومن يقوم بتنفيذ المشروع في هذه الحالة, وبعد سلسلة الاستقطاعات, لن يستطيع تنفيذه على أي مستوى يمكن قبوله.
إذاً العيب الأول في الإشراف, والعيب الثاني في السماح للمنفذ بالتنازل عن العقد لغيره, وقيام هذا الغير بتنفيذه من الباطن أيضا, بحيث يمتص كل منهما جزءا من القيمة فلا يتبقى ما يمكن تنفيذه به! هذا فضلا عن أنه لم يغب عن بال المشرع في نظام المنافسات احتمالات تقديم عروض منخفضة كثيرا عن التكاليف السائدة, التي تضعها الجهة الحكومية من أجل المقارنة, مثلما يحصل في بعض الحالات, رغبة من بعض المنفذين في الحصول على المشروع بأي سعر, إما لعلمهم المسبق بضعف الإشراف وإمكانية تسوية الأمور معه, وإما لتشغيل معداتهم وعمالتهم المتوقفة, وإما لثقتهم بأنفسهم من حيث القدرة على تسليك الأمور! بيد أن المشرع قد تنبه لهذا الأمر في النظام, وأعطى الجهة صاحبة المشروع حق استبعاد أي عرض من هذا النوع, حرصا على تنفيذ المشاريع بالتكلفة التي تستحقها للحصول على المستوى المطلوب.
أما عن القول إن المشاريع تستلم من قبل لجان موسعة تشارك فيها أطراف من غير جهة الإشراف, فإن ذلك صحيح, لكن هذه اللجان تتألف في غالبية أعضائها من أشخاص غير متخصصين في النواحي الفنية التي يتطلبها فحص المشروع, ويكون المرجع والكلمة الغالبة في هذه الحالة هي ما يدلي به المشرف على المشروع من شرح, فضلا عن أنه لن يكون بوسع لجنة الاستلام في هذه الحالة أن تكشف عما في بطن الأرض أو تحتها من أساسات وطبقات في مشاريع مثل المباني والطرق والجسور والصرف الصحي وما شابهها.
أما الأوراق والتقارير الدورية عن مستوى التنفيذ فإنها تأتي نظيفة ومكتملة, لا تشوبها شائبة, وقبلها أوراق المنافسة, ابتداء من الإعلان إلى توقيع العقد, تأتي هي الأخرى في أحسن صورة وأنظف ملف, ومثلها تأتي مستندات المستخلصات الشهرية, بحيث إن المراجعة المستندية المالية لا تكشف شيئا, ولا تملك إلا أن تبصم وتختم لحسن تنظيم المحاضر والأوراق ونصاعة بياضها, لأن العيب والخلل يبدآن من هناك, من الطبيعة, من الموقع منذ تسليمه للمنفذ, الذي قد يتخلله الفساد أيضا, فيوضع له تاريخ لاحق لإعفاء المنفذ من التأخير، وبالتالي الغرامة!
هذا فيما يتعلق بالمشاريع، أما أعمال التوريد فإن الخلل يأتي عند إعداد محاضر الاستلام، ويتمثل في عدم الاهتمام بمطابقة المواصفات والمقايسات التي ينص عليها العقد وشروط المنافسة، عن قصد، أو عن غير قصد، وأحيانا من عدم إلمام بعض أعضاء لجان الاستلام بالنواحي الفنية للمواد الموردة، واعتمادهم في ذلك على ما يدلي به الاستشاري، أو زملاؤهم في اللجنة، وكثيرا ما يتسبب عدم التدقيق في مطابقة الشروط في حدوث عيوب في المشروع الموردة من أجله تلك المواد، بعد انتهائه، ووضعه قيد الاستخدام، أو في التأثير على كفاءة المواد الموردة، وعمرها التشغيلي، خاصة إذا كانت من الأجهزة الفنية الدقيقة مثل أجهزة الكمبيوتر، أو المولدات الكهربائية والسيارات ونحوها!
ومن ثم فإن العناية بمطابقة المواصفات الفنية في أعمال التوريد، عند الاستلام، تأتي في درجة كبيرة من الأهمية لسلامة المشاريع.
الآن أفاق الجميع على بشاعة ما حدث في جدة، واندفع الجميع إلى الكتابة والتعليل، حتى من لم يكن من طبعه الكتابة، وكأن الفساد ظاهرة جديدة، أو أن ملامحه لم تكن بادية على مظاهر المدينة!
والسؤال المهم الذي يأتي بعد هذا كله هو: هل سنتغير ونعي مظاهر الفساد فنحاربه قولا وعملا، ونتعاون مع الأجهزة الرقابية المعنية بمحاربة الفساد في مدها بالمعلومات التي تتوافر عن مواطنه ومرتكبيه، ونتعلم مما حدث أن الفساد وإن استمر وتخفّى، سينكشف يوما بفعل الإرادة الإلهية، والمخلصين من أبناء الوطن!
والله من وراء القصد،،،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي