المواقع التراثية .. استثمار في الهوية والاقتصاد
تحتل المناطق التاريخية في السعودية مكانة بارزة في وجدان المجتمع، فهي تمثل ذاكرة المكان وهوية الإنسان، وتحمل بين جنباتها قصص الأجداد وتجاربهم التي شكلت حاضرنا.
لحفظ تراثنا التاريخي الذي يُعرّفنا "من نحن" بطرقٍ حديثة ومستدامة، يمكن تطوير نموذج متكامل يجمع بين الحماية العلمية والاستثمار الذكي، مستلهماً رؤية السعودية 2030 وتجارب عالمية ناجحة وفي إطار رؤية السعودية 2030، أولت القيادة اهتمامًا بالغًا بالتراث الوطني، سعيًا لتعزيزه وربطه بالتنمية المستدامة والاقتصاد المزدهر، بحيث يصبح التراث جزءًا حيًّا من الحياة اليومية وليس مجرد ماضٍ يُروى .
وتأتي المبادرات المتعددة لتطوير المواقع التراثية في جميع مناطق السعودية، ومنها المنطقة الشرقية، لتظهر هذا التوجه الواعي الذي يوازن بين الحفاظ على التاريخ وتطويره بأساليب مبتكرة. في هذا السياق، أقر مجلس إدارة هيئة تطوير المنطقة الشرقية، برئاسة الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية، تأهيل 12 موقعًا من الأحياء التاريخية والمواقع التراثية في المنطقة.
ويعود تاريخ الاستيطان في هذه المنطقة إلى ما قبل 7 آلاف إلى 8 آلاف عام قبل الميلاد، ما يجعلها من أعرق مناطق السعودية حضارةً وتاريخًا . وتعد مدينة القطيف أقدم مدن الشرقية، إذ تحتضن بين أزقتها ومبانيها القديمة ملامح من الماضي العريق، مثل بيت الجشي الذي يعود عمره لأكثر من 400 عام ، والذي أدرجته وزارة الثقافة ضمن آثار منطقة القلعة التاريخية .
ومع أن الأجداد عايشوا هذه المواقع بكل تفاصيلها، فإن الأجيال الحالية لم تحظَ بالتجربة ذاتها، ما يجعل مسؤولية الحفاظ عليها أكثر إلحاحًا.
ولعل ما هو مدفون تحت الأرض من آثار قد يكون أهم مما هو قائم فوقها، ما يفرض أساليب دقيقة في التنقيب والصيانة والحماية. فالحفاظ على التاريخ هو حفاظ على الهوية، وهو ما يعرّفنا بمن نحن، ويمنح الأجيال القادمة شعورًا بالانتماء والاعتزاز. من أجل ضمان استدامة هذه الجهود، يمكن تبني شراكات بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، بمشاركة من أبناء المنطقة المهتمين بالتراث، بحيث تُنشأ شركات مساهمة مغلقة تتولى إعادة تأهيل الأحياء التاريخية وفق شروط دقيقة تضمن توفر القدرات المالية والخبرات المتخصصة .
ويشترط في هذه الشركات أن تخصص جزءًا من دخلها لصيانة المواقع وتطويرها بشكل دوري، وأن تُعيد البناء بالتصاميم التاريخية نفسها مع الحفاظ على المعالم الأصلية قدر الإمكان ويسبقه تبني الدخل المتنوع من خلال تحويل المواقع لواجهات ثقافية تدر عائدا من مصادر مختلفة. وضرورة تمليك هذه الشركات للمواقع بحيث تتحول لاحقًا إلى شركات عامة، مع دخول الدولة بحصة مساهمة فيها لضمان التمكين والاستمرارية .
ومن المهم وضع دستور إداري ثابت لمجالس إدارات هذه الشركات، مستفيدين من تجارب عالمية ناجحة مثل نموذج “الشركات الوقفية” في جامعة هارفارد، التي تحافظ على أهدافها رغم تغير الإدارات.
وبهذه الطريقة ، تصبح إدارة المواقع التاريخية أكثر احترافية واستقلالية، وتضمن عدم تأثرها بالمتغيرات الإدارية أو الاقتصادية . ويمكن تطبيق هذه النماذج في مواقع أخرى مثل الأحساء ودارين، لتكون التجربة في الشرقية نموذجًا وطنيًا يحتذى به. إن الحفاظ على المناطق التاريخية ليس مجرد حماية لمبانٍ قديمة، بل هو استثمار في الهوية والذاكرة والاقتصاد.
فالمواقع التراثية قادرة على جذب السياح، وتحفيز الأنشطة الاقتصادية، وتوليد فرص عمل، إلى جانب دورها في ترسيخ الانتماء الوطني. وبالأفكار الحديثة المدعومة بالشراكات الفاعلة والتمويل المستدام، يمكننا أن نحافظ على هذه الكنوز للأجيال القادمة، ليظل الماضي حاضرًا في تفاصيل حياتنا، ويلهمنا في صناعة مستقبل أكثر إشراقًا.
رجل أعمال وكاتب اقتصادي