التآكل الديموغرافي .. أزمة خفية تقوّض التقدم العالمي
في عصور ما قبل التكنولوجيا كان انخفاض السكان يأتي كنتيجة لمرض مميت مثل الطاعون الأسود في القرن الـ14، أو الحروب والمجاعات. ولكن اليوم هو ناتج عن خيارات بشرية تفضل التخلي عن النزعة البشرية القائمة على الزواج والإنجاب. هذه الخيارات وإن كانت ذات ميول شخصية إلا أن عواقبها تنعكس على مجتمعات بأكملها. فـ لنتخيل معًا اقتصادا يفوق معدلات الوفيات فيه معدل المواليد، ويتجاوز عدد المتجهين للتقاعد أعداد الداخلين في سوق العمل. هذا الوضع يخلق اقتصادا مشوها يتآكل فيه الاستهلاك والإنفاق، ويتراجع الإنتاج والاستثمار، مع ميزانيات حكومية مثقلة بالأعباء لتلبية احتياجات الرعاية الصحية والاجتماعية للسكان في سن الشيخوخة.
يوجه صندوق النقد الدولي تحذيرا واضحا، الانخفاض في عدد السكان أصبح واقعا، فمعدل الخصوبة انخفض من نحو 5 أطفال لكل امرأة في عام 1950 إلى 2.24 طفل في الحقبة الحالية مع توقعات باستمرار التراجع، بدعم من مناطق التركز السكاني في آسيا وأوروبا. ففي الصين ثاني أكبر قوة سكانية في العالم، تشير توقعات صندوق النقد إلى انخفاض سكانها بنحو 156 مليون نسمة في الفترة بين (2025-2050)، جارتها اليابان سيتآكل سكانها بنحو 18 مليون نسمة، الوضع مشابه في أوروبا مع انخفاض السكان في أهم الاقتصادات مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.
لم تكن الأزمة نتيجة ظروف عابرة إنما سياسات حكومية وتغيرات ثقافية واجتماعية، ففي نهاية القرن الماضي وضعت دول مثل الصين سياسات صارمة لضبط الإنجاب مثل سياسة "الطفل الواحد" بهدف تسريع التحول الاقتصادي. التغيرات في الموروث الثقافي والاجتماعي في الدول المتقدمة مثل اليابان وأوروبا خلقت أجيالا تفضل عدم الزواج والإنجاب. تلك الكارثة السكانية بحكم التجارب أصبح تخطيها صعب للغاية.
يحمل التراجع السكاني عواقب تعرقل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، من ناحية يؤدي انخفاض أعداد المواليد إلى تراجع القوى العاملة اللازمة لقيادة الإنتاج والاستهلاك، بينما يؤدي ارتفاع أعداد من هم في مرحلة الشيخوخة إلى تكاليف إضافية على الحكومات مع الاحتياج المستمر للرعاية الصحية والاجتماعية. كل تلك الآثار تترجم إلى انخفاض في أعداد المدخرين في الاقتصاد وتباطؤ نصيب الفرد من الدخل القومي، وتحول الدول إلى وجهات غير مفضلة للاستثمار وتدفقات رؤوس الأموال.
التطوير والابتكار لن يكونا في معزل عن التراجع السكاني. فتراجع السكان في عمر الشباب سيؤدي لهبوط حاد في أعداد العلماء والباحثين والمبتكرين الذين يقودون ثورة التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي في الدول.
يحتاج العالم إلى سياسات غير تقليدية تحتوي الأزمة السكانية وتنجح في تدارك ما خلفته السياسات القديمة، وتعزيز الإقبال من الشباب على الزواج والإنجاب. هذه السياسات تتنوع بين السياسات المالية التي توفر الدعم السكني والمالي وتمنح الحوافز الإضافية لكل طفل، وتخفف الضرائب عن الأسر الأكبر حجمًا. وصولًا إلى السياسات الاجتماعية التي تبنى أنظمة عمل مرنة توازن بين العمل والمنزل، وسياسات أكثر مرونة للإجازة الوالدية ودعم مالي لرعاية الأطفال.
وصولًا إلى حملات التوعية التي تقودها الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني التي تعزز القيم التاريخية وتدعو لزيادة الإنجاب.
في السعودية حيث يشكل الشباب الجزء الأكبر من عدد السكان، فإنها تملك فرصة للاستفادة مما يعاني منه العالم، مجتمع يافع بالشباب والدوافع، موقع جغرافي قريب من أسواق كبيرة غير متشبعة بالسلع مثل إفريقيا والشرق الأوسط، بنية تحتية متطورة، رؤية طموحة هادفة للتنويع. تلك العوامل تدعم السعودية للتحول لمركز تصنيعي وتصديري عالمي، ووجهة لجذب رؤوس الأموال الباحثة عن وجهات جديدة للاستثمار والإنتاج.
يحتاج ذلك إلى صياغة سياسات واضحة تعالج الفجوات الخاصة بكفاءة القوى العاملة وتطوير مستويات التعليم، مع التركيز على تعزيز الابتكار والتوسع في إنشاء مراكز البحث والتطوير. بجانب توفير حوافز لجذب المواهب والكفاءات العالمية.
مستشارة اقتصادية