شيطان البطن في شهر رمضان

إن شهر رمضان هو شهر الرحمة والبركة وهو شهر سلام تنعم به نفس الإنسان المؤمن بشعور لا مثيل له من الأمن والسلام والاطمئنان, وهو شهر كله نور لأنه شهر الله وفيه أنزل القرآن الكريم وبفضل هذا النور الإلهي الذي يتشرف به هذا الشهر العظيم تنكمش الشياطين على نفسها أو تختبئ بعيدا في جحورها خوفا من أن يحرقها هذا النور. ولكن المشكلة في بعض الأحيان أن الإنسان بنفسه ولجهله وقلة وعيه قد يفتح نفسه ويدعو هذه الشياطين لتختبئ في داخله, فيصبح هو بذاته جحرا للشيطان ويصير الشيطان متلبسا به. وعندها كيف للإنسان الصائم أن ينتفع من صومه وعباداته في شهر رمضان إذا ما سمح لبعض الشياطين أن تجد مسكنا ومخبئا في داخله, فالصوم يريد أن يعلمه الصبر وهذه الشياطين تتمرد عليه وتجعل منه إنسانا عجولا ومتأففا ومتذمرا أكثر من بقية الشهور, والصوم يريد أن يسمو بروح الصائم ويرتقي بأخلاقه وسلوكياته وهذه الشياطين القابعة في داخل النفس ترفض أن تبتعد روح الصائم بعيدا عنها بل تريد منها أن تنغمس أكثر في الملذات والشهوات في هذا الشهر أكثر من بقية الشهور, وتجد هذا الإنسان الصائم بفعل هذه الشياطين وقد ازدادت أخلاقه سوءا, يحتد بسرعة ويغضب لأتفه الأسباب وتخشن معاملته مع أهله ومع الآخرين وتثور ثائرته لأدنى شيء يضايقه. فهناك الكثير مما ينتفع به الصائم من صومه ولكن بشرط أن يحمي الصائم نفسه من أن تجد هذه الشياطين طريقا إلى داخله. ولعل اللافت في الوقت الحاضر أن من أكثر هذه الشياطين حركة ونشاطا وحضورا في داخل نفوس بعض الصائمين هو شيطان البطن, ولم يعد يكفي بطوننا شيطان واحد بل صارت لها شياطين متعددة. وكلما امتدت وطالت موائدنا في شهر رمضان ازداد عدد هذه الشياطين الرابضة في بطوننا. فهل نحن فعلا نأكل بوحي أنفسنا وببطن واحدة وبقدر حاجتنا أم بوحي ما تأمرنا به هذه الشياطين؟ وهل فعلا أجسامنا بحاجة إلى كل هذه اللحوم والدهون والحلويات والمعجنات التي نلتهمها على مائدة الإفطار وبطوننا بعد لم تتخلص من الطعام الذي راكمناه في داخلها طوال الليل, من الفطور إلى السحور؟ يبدو أن شياطين البطن هذه قد أفسدت الفرحة على أعضاء جسم الإنسان بقدوم هذا الشهر الكريم, فهي كانت تمني نفسها وتنتظر منا أن نرحمها في هذا الشهر ونرفق بها ونخفف عليها ونعطيها الفرصة لتستريح ولو قليلا لتستعيد بعض نشاطها. فلو كانت لنا أسماع تفقه كلام هذه الأعضاء لسمعنا صراخها وبكاءها وعويلها وتوسلاتها لنا بأن نرحمها وألا نرسل لها هذا الكوكتيل من الطعام المثقل باللحوم والنشويات والدهون وأنواع الحلويات. فالمعدة تصرخ بأعلى صوتها أنها ما عادت قادرة على استيعاب كل هذا الطعام في زمن لا تتعدى دقائقه العشر, فجدرانها قد أنهكت لكثرة ما هو مطلوب منها أن تطحنه من لحوم, ولم يعد عندها من العصائر الهضمية ما يكفي لتفكيك كل هذه الدهون التي جاءت مع المقليات وغيرها. وكيف حال الكبد وقد وجدت نفسها في هذا الشهر وهي مطالبة بأن تضاعف من مجهودها وعملها لتخلص أجسامنا من كل ما دفعنا به إليها من أصباغ وألوان ونكهات صناعية وأغلبها في الحقيقة هي سموم ومواد كيميائية ضارة ولكنها بطعم حلو وألوان جميلة. وكان الله في عون البنكرياس ومن أين تجد لها ما يكفيها من أنزيمات لحرق كل ما التهمناه من مواد سكرية ونشوية وهي تعلم أنها وحدها لا تستطيع تخليص دمائنا وأجسامنا من كل هذه المواد الحلوة ولا بد أن تشترك الكلى في تحمل هذه المعاناة لتعمل فوق طاقتها لتدفع بهذا السكر الزائد والذي لم تستطع البنكرياس أن تختزنه في خلايا جسمنا ولم يعد الدم قادرا أن يذيبه فيه إلى خارج الجسم. وساعد الله قلوبنا وهي تستقبل طلبات كل هذه الأعضاء المجهدة بهضم الطعام الزائد ليمدها بالطاقة اللازمة لعملها على ألا يقصر في واجباته الحيوية الأخرى, ولكن ماذا يعمل وهو يضخ دما ثقيلا وكثيفا ولزجا لكثرة ما فيه من دهون وسكريات؟ وهل يستطيع أن يرسل الدم بالكمية المطلوبة وبالميزان المقدر من الضغط والتدفق وهو يعلم أن الشرايين قد ضاقت بفعل ما ترسب على جدرانها من بقايا الدهون والسكريات التي تفننا في طبخها وتقديمها وأكلها؟ ومن أين له بالقوة لكي يدفع بالدم في الشرايين لكيلا يتباطأ هذا الدم في مجراه ويتجلط ويصاب صاحبه بجلطة قد تؤدي به إلى الموت.
إن الإنسان كان ظلوما جهولا, نعم إن الإنسان جاهل وظالم لنفسه إن لم يستثمر شهر رمضان لترويض شيطان بطنه, إننا مدعوون لنرحم أجسامنا في شهر الرحمة, مدعوون لنرحم قلوبنا ولا ندعها تشتكي إلى السماء علينا, مدعوون لنعطي أجسامنا الفرصة لتستعيد بعض صحتها لا أن نزيدها تعبا ومرضا, مدعوون لندع عقولنا تسترخي ولو قليلا في هذا الشهر, وهو شهر التأمل والعبادة والتفكر في عظمة الله ونعمه لا أن نزيده هما وانشغالا بإدارة وترتيب أعضائنا الداخلية التي جاءت تشتكي إليه تعبها لكثرة ما تستقبل ما يفد إليها من طعام. هناك الكثير مما يمكن قوله لترشيد بطوننا في شهر رمضان, وسنكتفي بذكر بعض ونترك الباقي للحديث عنه في مناسبات قادمة:
العلم والطب القديم والحديث وحتى التعاليم الدينية تؤكد أن حاجة الإنسان إلى الطعام قليلة, فما يكفي الإنسان من طعام لا يتجاوز مقدار الربع وحتى العشر مما يأكل في العادة. إن أكثر ما نأكله هو فوق حاجتنا وما أخذنا هذا الأكل الزائد إلا بسبب إما جهلنا بحاجاتنا الحقيقية وإما بسبب العادات الخاطئة عندنا في الطعام. فنحن عندما نعود أجسامنا على كثرة الأكل وأجسامنا تتعود على تخزين هذا الطعام الزائد ككتل وتورمات متناثرة في أجسامنا, فإن شهر رمضان يتيح لنا الفرصة لكسر هذه العادة وعندما تتيقن أجسامنا من عزمنا على تغيير عاداتنا في الأكل فإنها ستستجيب لنا وستقتنع بالقليل من الطعام وحتى عند الضرورة وذلك مثلا عندما نمارس الرياضة فإنها ستكون عاقلة وراشدة في مثل هذه الحالة ولا تطلب المزيد من الأكل بل ستحرق ما عندها من شحوم لإنتاج الطاقة التي تحتاج إليها.
في الحياة .. هناك الخير وهناك الشر وهناك الملائكة وهناك الشياطين وهناك الطريق المستقيم وهناك الأعوج وهناك الصديق وهناك العدو, والطعام لا يخرج عن هذه المعادلة, فهناك طعام طيب وهناك طعام خبيث وهناك طعام صديق للإنسان وهناك طعام ما هو إلا عدو للإنسان, فإذا كان شهر رمضان هو شهر الخيرات وهو شهر الملائكة فإننا مطالبون بألا نأخذ من الطعام إلا ما هو صديق لنا ونتجنب ما هو عدو لنا, وما لنا صرنا نستكثر في هذا الشهر من الطعام ما هو ألد ألد أعدائنا, ما لنا نأكل في هذا الشهر وكأننا في حرب طاحنة مع أجسامنا, ما لنا لا نرسل لها إلا الطعام الذي تبغضه ولا نرسل لها من الأكل إلا ما هو سام وقاتل لها, نعم هناك طعام سام وإن تهللت وجوهنا فرحا بحلاوته وجمال منظره, وهناك طعام قاتل وإن بدا مسالما لنا وطيبا ونحن نلوكه بأسناننا.
إن في شهر رمضان كنوزا كثيرة وما على الإنسان المؤمن الصائم إلا أن يغترف من هذه الكنوز ليحيا بفضل إيمانه وببركات هذا الشهر حياة سعيدة ومطمئنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي