المعدلات لا تزال بعيدة والمخاطر باقية

تستخدم البنوك المركزية السياسة النقدية في مواجهة التقلبات الاقتصادية وتحقيق استقرار الأسعار، وهو ما يعني انخفاض التضخم واستقراره. وتحدد البنوك المركزية في كثير من الاقتصادات المتقدمة أهدافا صريحة للتضخم. والآن، يتحول كثير من الدول النامية كذلك إلى وضع إطار لاستهداف التضخم. وعليه نلاحظ خلال الفترة الماضية أن التضخم المرتفع في معظم الدول يضع البنوك المركزية على مسار صعب، في ظل أن مخاطر ارتفاع التضخم عن المستوى المتوقع لا تزال كبيرة، وقد يلزم تشديد السياسة بدرجة أكثر حدة إذا تحققت هذه المخاطر.
ومنذ أشهر قليلة فقط توقعت البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة أنها قد تشدد السياسة النقدية بخطوات تتوخى التدرج الشديد. وبدأ التضخم مدفوعا بمزيج غير معتاد من صدمات العرض التي اقترنت بالجائحة وأخيرا بالحرب الروسية - الأوكرانية، وكان من المتوقع أن ينخفض سريعا بمجرد تراجع هذه الضغوط.
ومن هنا يظل التضخم المرتفع في أغلبية الدول الهم الرئيس للمشرعين في هذه الدول أو تلك. لكن المخاوف بشأن مستقبل النمو فيها ترتفع أيضا، رغم نجاحها فعلا بخفض أسعار المستهلكين خلال الأشهر الماضية، وذلك عبر سياسة التشديد النقدي التي باتت السمة الأساسية للنشاط الاقتصادي على مستوى العالم كله تقريبا. ومعدل التضخم الراهن، لا يزال بعيدا بمستويات مختلفة بين دولة وأخرى عن الحد الأعلى الذي وضعته الحكومات عند 2 في المائة، وهذا ما يدعو الجهات الدولية المهتمة بهذا الجانب، وعلى رأسها صندوق النقد، إلى إطلاق التحذيرات جراء اتخاذ أي إجراءات وصفها بـ"المتسرعة" في مواجهة الموجة التضخمية. فالأولوية لا بد أن تكون لخفض تكاليف العيش، قبل البحث عن تخفيف السياسة النقدية، وفق ما ركزت عليه أخيرا رئيسة صندوق النقد الدولي.
هذا التحذير جاء في أعقاب قيام عدد من البنوك المركزية بتثبيت أسعار الفائدة لديها، بما في ذلك المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك إنجلترا المركزي، والبنك المركزي الأوروبي. والحق أن هذه البنوك استندت إلى حقيقة أن التضخم بات تحت السيطرة، وإن لم يصل بعد إلى الحد المستهدف، رغم أنها لم تغلق الأبواب أمام أي رفع مقبل للفائدة إذا ما دعت الحاجة إلى مثل هذه الخطوة. ولا شك، أن ضغوط النمو تزداد بشكل مستمر، وتأمل الحكومات حول العالم تحقيق مستويات مقبولة للنمو في العام المقبل، في حين أن بعض الدول تأمل أن تشهد اقتصاداتها هبوطا ناعما، كبديل عن ركود غير مرغوب بالطبع، وذلك نتيجة عدم وصولها بعد إلى الحد الذي ينشر الاطمئنان، بشأن التضخم.
ولا شك أن التحذيرات التي أطلقها "صندوق النقد" تؤكد مجددا أن مرحلة التعافي لا تزال في المنطقة الحرجة أو غير واضحة بعد. فحتى الاقتصاد الأمريكي الذي حقق تقدما واضحا في العام الجاري على صعيد التضخم، لا يزال يعاني مستواه عند 3.14 في المائة، علما بأنه وصل إلى 3 في المائة في مرحلة سابقة من العام الحالي. والصورة أفضل قليلا في منطقة اليورو، التي سجلت فيها أسعار المستهلكين أخيرا 2.9 في المائة على أساس سنوي، أما في المملكة المتحدة فالصورة أكثر تشويشا بتضخم بلغ قبل أسابيع 5.6 في المائة. ومن هنا، يمكن فهم المخاوف من مسألة تخفيف السياسة النقدية في الوقت الراهن. والمشكلة البارزة الآن، تكمن في عدم وضوح الرؤية حيال الأوضاع الاقتصادية عموما في العام المقبل. فالمصاعب الراهنة قد تستمر إلى منتصف العقد الحالي على أقل تقدير.
بالطبع مسألة التشديد أو التخفيف النقدي تختلف من دولة إلى أخرى. ولذلك قد يكون تثبيت الفائدة في بلد متماشيا مع مسارها التضخمي أكثر من بلد آخر. ولذلك يرى المشرعون الدوليون (لا المحليون) ضرورة قراءة الأوضاع على الساحة المحلية، وليس على المسار الدولي العالمي، في ظل استمرار المواجهة مع الموجة التضخمية. وعلى هذا الأساس، فإن الإجراءات المتسرعة، ستؤدي حتما إلى انتكاسات اقتصادية في المستقبل، في حين لا بد من البناء على ما تحقق فعلا في العام الحالي، الذي شهد تراجعا ملحوظا لأسعار المستهلكين. ويبدو واضحا، أن التشديد النقدي سيظل حاضرا على الساحة في الأشهر المقبلة، رغم حاجة الاقتصادات كلها إلى مستويات نمو مقبولة ولا نقول مرتفعة، لأن تحقيق نسب عالية في هذا المجال، وسط مرحلة من هذا التشديد تبدو أقرب للمستحيل منها إلى إمكانية التحقيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي