تقدير الذات على أصوله

بعد أن توسعنا في المقالات السابقة في نقد حركة تقدير الذات وأفكارها وافتراضاتها،حان الوقت لأن نستطلع البديل معا،أو فلنقل المفهوم السليم لتقدير الذات.فقد اتفقنا على أن تقدير الذات بإطلاق ليس من العقل ولا الواقعية،كما أن تحقيرها والحط من شأنها لا عقل فيه بل يصب في نفس الإناء الكريه : النرجسية والهوس بالذات.ولكن يبدو أنه من السهل الوقوع في إحدى هذين الفخين،لماذا؟
لأنه في غياب المنهج الصحيح والمعيار الذي يضبط تعامل الإنسان مع ذاته وبالتالي مع الآخرين ومع الكون،يقع الشخص في حيرة شديدة..فعلى أي أساس يقيِّم نفسه ومشاعرها وطباعها وتصرفاتها :بالمقارنة مع الغير أم على الهوى؟ ليست هذه بمقاييس يتبعها عاقل، ففي ظل هذه الحيرة والضبابية لا بد أن يضل الإنسان الطريق ويسيء تقييم ومعاملة ذاته (وغير ذاته) سواء بتمجيدها بطريقة أو بأخرى أو بنقيض ذلك.فتخيلوا مثلا لو أن المسطرة التي يقيس بها المهندس المسافات كانت معوجة،كيف سيكون بناؤه؟ ألن يكون فاشلا؟ بالتأكيد..فقد اختار مقياسا معوجا،فلا أمل له في النجاح مهما اجتهد،فلابد للإنسان أن يبدأ بـ (مسطرة) سليمة وصالحة للقياس وهي المنهج السليم للحكم على الأمور والتعامل معها والذي لا نفتقده كمسلمين ولكن نفتقد تفعيله.
وانطلاقا من هذا المنهج يشرع الفرد في رحلة وِجهتها أهم من (تقدير الذات) ألا وهي معرفة الذات،وإلا فماذا يُقَدِّر؟مجهول؟غير ممكن طبعا،إلا أن كثيرا من الناس يتحاشون خوض هذه الرحلة لأنها بصراحة ليست سهلة،ويمكننا أن نقول لهم : وهل عرفتم شيئا قَيِّما أُدرِك بسهولة؟
طيب..عرفنا ذواتنا..ثم ماذا؟ كيف نصل من معرفة الذات إلى تقدير الذات الذي ننشده؟ وللإجابة عن هذا السؤال نتذكر ما ناقشناه في المقالات السابقة عن مفهوم تقدير الذات وإطلاقه دون ضوابط ،فهو على هذا الشكل ليس واردا ولا مطلوبا لمفهوم سليم عن الذات..مما يقودنا لسؤال بدهي: ما هو المفهوم الأصح والأسلم للذات؟ والجواب يرتبط بل يعتمد على حب الإنسان لذاته..ماذا تقولين؟ ألم تنتقدي حب الذات من قبل؟ نعم..فعلت،وما أزال..وما أنتقده هو حب الذات المذموم بعكس حب الذات الصحيح .فما الفرق؟ الفرق هو بُعد النظر،فحب الذات السليم ينظر إلى مصلحته على المدى القصير..نعم،ولكن دون أن يغفل مصلحته على المدى الطويل كما يفعل حب الذات الذميم الذي هو في حقيقته كره للذات مغلف بقشرة واهية وخدّاعة من حب الذات.فأما حب الذات الراقي فيتطلب تهذيبا للنفس..تهذيبا مبنيا على المنهج السليم وعلى معرفة الذات التي تكلمنا عنها سابقا.فعوضا عن أن ينشغل الإنسان بمدى تقديره لنفسه، ويقع فريسة الأوهام ،ينشغل بمعالجة عيوبها وتعزيز محاسنها وإحسان استغلالها، ومن خلال هذه العملية المتجددة دوما تتعزز ثقة الإنسان بنفسه (من بعد ثقته بربه طبعا)،ليس لذاتها،بل لأنه يعلم أنه يسير في طريق تزكيتها ،فهو بذلك أفضل اليوم منه بالأمس أي أنه يتابع التَرَقِّي ويقاوم التَدَنِّي ،وهذا المطلوب منه بعيدا عن تعظيم ذاته أو ازدرائها. فعلى أي منهج نسير إذن؟جوابي يتلخص في آية من كتاب الله العزيز ظلت تتردد على ذهني وأنا أبحث في هذا الموضوع :»إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا.لقد أحصاهم وعَدّهم عدّا.وكلهم آتيه يوم القيامة فردا»ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أهم مفهوم يعيه الإنسان فينصلح حاله في الدنيا والآخرة:فرديته واستقلاليته (أي ذاته) و عبوديته لله عز وجل والتي في ظلها وبنورها تتحقق فرديته الحقّة السليمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي