هل تقصي خوارزميات المستقبل مكاتب الاستشارات التقليدية؟

تشهد صناعة الاستشارات العالمية زلزالًا يعيد رسم ملامحها بعد عقود من النفوذ على قرارات الدول والشركات. فالوصفة التقليدية القائمة على "التشخيص والتوصية" لم تعد تلبي توقعات العملاء الذين يبحثون عن حلول سريعة مدعومة بالتقنية. كشف تقريرIBM  أن 86% من العملاء يفضلون خدمات معتمدة على الذكاء الاصطناعي، بينما حذّر خبراء منذ سنوات من الإفراط في الاعتماد على بيوت الاستشارات الأجنبية وما سببه من تبعية وإضعاف للقدرات المحلية.

صعود الذكاء الاصطناعي يضغط على شركات الاستشارات التقليدية لتغيير قواعد اللعبة، بعدما بنت نجاحها لعقود على التقارير المطوّلة أكثر من التنفيذ الفعلي. يكشف تقرير ماكنزي أن 72% من الشركات عالميًا باتت تستخدم الذكاء الاصطناعي، ما قلّص الحاجة إلى الاستشارات التقليدية وأدى إلى تراجع التوظيف بنسبة 7% منذ 2021، مع انخفاض فرص العمل الجديدة بنحو 50%.

لكن هذه التحولات ليست نهاية الصناعة، بل بداية إعادة تشكيلها بالكامل؛ فالعملاء باتوا يطالبون بعقود "الدفع مقابل الأثر" بدل الساعات أو التقارير، ما دفع شركات مثلAccenture  وBCG  لإطلاق وحدات متخصصة بالذكاء الاصطناعي تقدم حلولًا تنفيذيةً ملموسةً وسريعة.

في المقابل، ظهرت شركات ناشئة تُعرف بـ“AI-native consultancies”، تمزج بين تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات مع فرق بشرية محدودة، لتطرح خدمات أسرع وأقل تكلفة، ما وضعها في مواجهة مباشرة مع عمالقة الاستشارات التقليدية. هذا النموذج الجديد أثار شهية المستثمرين، فاندفعوا نحو الاستحواذ عليها لإعادة رسم خريطة صناعة الخدمات، عبر الجمع بين التكنولوجيا، وقوة العلامة التجارية، والكفاءات المتميزة، والقدرة على التوسع. وقد سجلت الولايات المتحدة في النصف الأول من 2025 قفزةً بنسبة 200% في صفقات الاستحواذ مقارنة بالعام الماضي، مع امتداد الأثر لأوروبا وآسيا.

في مشهد قانوني يتشظى بين آلاف المكاتب الصغيرة والمتوسطة، تمنح عمليات الدمج وإعادة الهيكلة عبر منصات تقنية فرصة لرفع التقييمات إلى مستويات غير مسبوقة. فالمكاتب التقليدية التي اعتمدت لعقود على نموذج "الفوترة بالساعة" والتخصص الصارم، تواجه اليوم واقعًا مختلفًا؛ إذ يوضح تقرير Harvard Law Lab  أن نحو 75% من الأعمال القانونية المتكررة قابلة للأتمتة، وهو ما يهزّ الأساس التقليدي الذي ربط بين الوقت والمال، ويفرض تحوّلًا نحو نموذج جديد "القيمة مقابل الحل".

هذه النقلة ليست مجرد تطوّر تقني، بل إعادة صياغة جذرية لهوية مهنة المحاماة ومعاييرها. فقد بادرت شركة Barrett & Farahany الأمريكية بتحويل كامل نموذج عملها نحو "AI-native" من خلال شراكة إستراتيجية مع منصة Eve، لتجعل جميع مراحل خدماتها القانونية -من الفرز الأولي للقضايا وحتى إعداد المرافعات وصياغة العقود- مؤتمتةً ومدعومةً بالذكاء الاصطناعي. وفي بريطانيا، أطلقت شركة Garfield Law  أول مكتب محاماة "AI-native" معتمد من (SRA)، يعتمد كلياً على الذكاء الاصطناعي الهجين (خليط بين الأنظمة الخبيرة والنماذج اللغوية الضخمة) لمعالجة القضايا المتكررة مثل تحصيل الديون، مع تطبيق أنظمة رقابية متقدمة وآليات للحد من أخطاء الذكاء الاصطناعي (hallucination mitigation).

إنَّ الذكاء الاصطناعي لن يُقصي المحامين، بل سيقصي المحامين الذين لا يعتمدون عليه، فالمهنة ليست في خطر وجودي، إنَّما الممارسات التقليدية التي تتجاهل التحول الرقمي هي ما تقف على حافة الانقراض. فما يحدث اليوم يمثل تفكيكًا سلسًا لقيمة الخدمات القانونية؛ إذْ لم يعد العميل مضطرًا للاعتماد على مكتب شامل، بل أصبح قادرًا على شراء خدمات مجزأة عبر منصات رقمية متخصصة، من التوثيق إلى الامتثال وقواعد بيانات العقود الجاهزة. هذا الاتجاه، المعروف بـــ"unbundling legal services"، أصبح أكثر شيوعًا، وأثبت نموًا في قاعدة المستخدمين بنسبة تفوق 40% على منصات مثل LegalZoom  وRocket Lawyer.

رغم تفوق الخوارزميات وشركات الاستشارات العالمية، يبقى الفهم المتجذر للسياقات المحلية عنصرًا لا يمكن استبداله.

وهنا يبرز دور المكاتب الوطنية القادرة على مزج مزايا التقنية مع إدراكها للثقافة والبيئة التنظيمية، ما يمنحها ميزة مزدوجة تؤهلها للنمو في الأسواق الصاعدة الباحثة عن حلول واقعية لا وصفات جاهزة.

وخلال 5 سنوات يتوقع أن يصبح النموذج AI-native السائد في الخدمات القانونية، مع منافسة بين شركات ناشئة سريعة التحول وكيانات تقليدية تتأقلم تدريجيًا.

لم يعد طلب العملاء اليوم مقيدًا بتقارير مطولة أو ساعات فوترة، بل حلولًا سريعة ودقيقة ومتصلة بالواقع المحلي.

والفائز لن يكون الأكبر حجمًا، بل من يتمكّن من دمج قوة الخوارزمية مع دفء العلاقة الإنسانية، والمنصة مع المرونة الثقافية. إنَّها لحظة فارقة تعيد تعريف العمل القانوني وتفرض على الجميع إعادة اختراع أنفسهم، لأن المستقبل سيُكتب بأيدي أولئك الذين يمتلكون الجرأة على التغيير.


مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي