المال والسعادة .. بعض التأملات من علم جديد
يقول الكثيرون إن «المال لا يجلب السعادة». فهل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نرى الناس يسعون لجمع المال ويتحمّلون في سبيل ذلك الهمّ الكثير؟
هذه الأسئلة هي نقطة البداية لفرع جديد من فروع العلم يطلق عليه البعض (الاقتصاد السلوكي)، وهو يعد انشقاقاً من علم الاقتصاد التقليدي الذي كان يوازي بين السعادة والمال، فيفترض أن كل زيادة في المال أو الدخل تقابلها زيادة في معدل السعادة. أما علم الاقتصاد السلوكي فهو يبحث بصفة أساسية في (السعادة) ذاتها ليحاول حصر أسبابها، سواء اتفقت مع المال أو افترقت عنه. بل إن البعض توسع في مفهوم هذا العلم فأصبح يطلق عليه: (علم السعادة). وهذا المجال الجديد هو مزيج من الاقتصاد والعلوم المالية والطب النفسي وعلم الأعصاب وعلم السلوك الاجتماعي. كما أنه يستفيد من عديد من التطورات الحديثة، حيث يمكن تصوير الدماغ ورصد المناطق منه المعروف ارتباطها بالسعادة في حالات مختلفة محاولةً لفهم الظروف التي تحقق السعادة وتؤثر فيها.
فما رأي هذا العلم الجديد في سؤالنا الأصلي: «هل المال يجلب السعادة؟».
الجواب هو: نعم! المال يجلب السعادة ولكن بطرق تختلف عما نتوقع. ومن أبرز المفارقات التي يظهرها لنا علم الاقتصاد السلوكي عن مفاهيم الاقتصاد التقليدية هي ما يلي:
أولاً: أنه ليس بإمكان الشخص تقدير سعادته بمبلغ معين من المال أو الدخل بصفة مطلقة، بل يجب لذلك أن يقارنه بغيره. وبالتالي فإن الشخص يسعد إذا كان يحس أنه يكسب أكثر من غيره، بغض النظر عن قيمة دخله الفعلية. ومن أبرز التجارب في هذا الشأن هو استفتاء تم فيه سؤال مجموعة كبيرة عما إذا كانوا يفضّلون دخل 100 ألف دولار في مجتمع يكون فيه متوسط الدخل 120 ألف دولار، أو يفضلون أن يكون دخلهم 75 ألف دولار في مجتمع يكون فيه متوسط الدخل 60 ألف دولار. والغالبية العظمى من المجيبين كانوا يفضلون الحالة الأخيرة على الرغم من أنه ينتج عنها دخل أقل لهم من حيث القيمة. أو كما يقول أحد الزملاء «الرجل السعيد هو الذي يكسب أكثر من صهره» (وذلك نظراً لسواد المنظور النسبي بين الأصهار).
ثانياً: أن السعادة التي يجنيها المرء من المال لا تكون في العادة نتيجة الدخل في ذاته، إنما نتيجة للزيادة في ذلك الدخل. فالشخص الذي يزداد دخله أو ثروته تزداد سعادته في فترة تلك الزيادة، ولكنها ما تلبث أن تستقر لمعدلها الأول نتيجة التعوّد والتأقلم على المستوى الجديد. هذا التأقلم يكون من منظور نفسي وكذلك من منظور مالي، حيث يزداد الإنفاق بعد فترة بوتيرة الزيادة في الدخل نفسها، وأحياناً بوتيرة أكبر (وفي أحيان كثيرة بشكل لا شعوري). وبالتأقلم يصبح مستوى الدخل الجديد هو المستوى الطبيعي، ليبدأ الشخص في السعي إلى زيادة جديدة محاولة لاستعادة تلك السعادة الأولية. ولذا فإني أتذكر أصحابي الذين كانوا يشكون ضيق الحال في شبابنا، وما زالوا كذلك بعد عشرة أعوام، على الرغم أن مداخيلهم تضاعفت عدة مرات في تلك الفترة.
ثالثاً: أن الوطأة السلبية لأي خسارة أو انخفاض في المال عادة ما تكون ضِعف النشوة من المربح الموازي له في القيمة. فلو عرضت عليك أن نرمي قرشاً، فإذا صار على وجه فعليك أن تدفع لي 100 ريال، فكم ترغب أن تربح إذا صار على الوجه الآخر لكي تعتبر اللعبة مجدية لك. الكثير ممن يُسألون هذا السؤال يشترطون ألا تقل قيمة الربح عن ضعف قيمة الخسارة المحتملة. وعلى الرغم من كون هذا المثال في عداد القمار، إلا أنه يوضح أن معاناتنا الخسارة عادة ما تكون أكبر من استمتاعنا بالربح.
رابعاً: أن الإنسان يقع في أخطاء كثيرة في تقدير العلاقة بين ما يُنفق عليه وبين ما يحقق له السعادة الفعلية. فلو كنا نمشي في الخارج والجو حار، وقلت لك إني سأذهب لآتي لك بقارورة ماء من بقالة مجاورة، فكم أقصى مبلغ تسمح لي بدفعه نظير ذلك الماء؟ الكثير يصلون حتى عشرة ريالات (بحسب عطشهم وكرمهم). ولكن ماذا لو قلت لك إني سأذهب لآتي لك بقارورة ماء من فندق مجاور، كم سيكون مبلغك الأقصى عندئذ؟ لدى القيام بتجربة على هذا النحو، وجد الباحثون أن حدّنا الأعلى يزداد في الحالة الثانية بشكل كبير. مع أن قيمة قارورة من الماء بالنسبة لنا ينبغي أن تكون واحدة في كلتا الحالتين، نظراً لتطابق الفائدة منها (خصوصاً أننا لن نستفيد من الجلوس في الفندق الفاره نظراً لأن صاحبنا كان سيجلب الماء لنا).
في ظل ما سبق، أود أن أعرض على القراء الكرام بعض الاقتراحات والتوصيات لترجمة المرئيات السابقة إلى فوائد محسوسة:
* لا تراقب الناس! فمن راقب الناس مات همّاً. بالطبع الكلام في هذا الصدد أسهل كثيراً من التطبيق، ولكن من التوصيات العملية في هذا الشأن أنه من الأفضل أن تسكن أفضل منزل في الحي (ولو كان الحي متواضعاً)، من أن تسكن في أصغر منزل في أفضل حي. ومن هذا أيضاً أن تحاول الابتعاد عن النسبية في كل مشترياتك، فلا تشتري أي شيء يسهل معه المقارنة بين ما حصلت عليه وما لم تحصل عليه. أو كما يقول أحد الزملاء: «كل من يملك مرسيدس موديل 320 يتذكر ما ينقصه كلما يمرّ بجانب مرسيدس 500، أما مالك الهونداي، فالمقارنة له أقل وضوحاً».
* حاول ألا تصرف كل زيادة في دخلك تلقائياً، فإن ذلك لن يحقق لك السعادة أو سيحققها بشكل وقتي. فإذا طرأت زيادة في دخلك حاول أن تخصص معظمها للادخار، لأنّ أثر الادخار الإيجابي في نفس المرء أكثر دواماً من أثر الاستهلاك. كما يمكنك أن تخصص جزءا من الزيادة للإنفاق، بحيث تقوم بتخصيص جزء أكبر للإنفاق في العام المقبل، مما يحسسك بزيادة في مستواك المعيشي كل سنة دون أن تحتاج إلى أن يصاحب ذلك زيادة في دخلك الحقيقي.
* لا تضارب! فالمضارب الذي يراقب شاشات الأسعار بشكل يومي يتحمل معاناة نفسية كبيرة من كل انخفاض خلال اليوم. وبالتالي فالمضارب يجب أن يربح ضعف ما يخسر، فقط ليحقق التوازن من منظور نفسي.
* كن واعياً بأي مصاريفك جلب لك السعادة وأيها فقط تصرفه دون زيادة تُذكر في مقدار سعادتك. وبهذا الصدد من الجدير بالذكر أننا عادة ما نُبالغ في تقدير سعادتنا من جراء مصرف معين ومن الخسارة التي نتوقعها من فقدانه، لذا أوصي بالمحاولة لزيادة معدل الادخار بتجنيب مبلغ من بداية الشهر وإبعاده من حسابك اليومي، مما يجبرك على تقليص مصاريفك بدءاً من تلك التي تجلب لك أقل قدر من السعادة، وإذا لم تتمكن من ذلك بعد مرور بضعة أشهر أمكنك إعادة الوضع لما كان عليه، ولكن الأبحاث أثبتت أن معظم الناس يتأقلمون مع دخلهم الأقل بعد بضعة أشهر دون أن يسبب لهم ذلك أي انخفاض مستديم في سعادتهم.
* حتى في نطاق الإنفاق، فإن بعض الأبحاث وجدت أن الإنفاق على التجارب (كالرحلات، والدورات) عادة ما يكون أكثر ارتباطاً بالسعادة على الإنفاق على المقتنيات (كالملابس، الجوالات... إلخ)، وذلك لأن التجارب تتمتع بقدر أكبر من الثبات في الذاكرة مما يعطيها قيمة أكبر في تحقيق السعادة على المدى الطويل. وفي هذا الصدد من أهم هذه التجارب هو الإنفاق على الصدقات وفي أوجه الخير الأخرى، خصوصاً إذا كان بإمكان الشخص المشاركة في تجربة الإنفاق بأكملها وليس فقط بتحرير شيك لها.
أرجو أن يكون في هذه الأفكار مساهمة في زيادة معدل السعادة للجميع. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا.