أما من سبيل إلى تغيير النمط الاستهلاكي الغذائي في المجتمع؟!
يواجه الناس خلال هذه الفترة ثلاث مناسبات تتطلب مزيدا من الإنفاق لمقابلة الالتزامات المرتبطة بكل منها, والمناسبة الأولى هي حلول شهر رمضان المبارك, وما يرتبط به عادة من زيادة الإقبال على شراء وتخزين المواد الغذائية قبل بداية الشهر بأيام ثم استهلاكها بشكل يفوق حاجة الأسرة, وربما بقي جزء كبير منها دون استهلاك. والمناسبة الثانية هي موسم الإجازات وما يرتبط به من حركة تنقل داخلية أو خارجية تتطلب مزيدا من الإنفاق رغبة في الترفيه والترويح, حتى لمن لا تمكنه ظروفه المادية من تغيير المكان!..., أما المناسبة الثالثة فهي بداية العام الدراسي التي تأتي بعد انتهاء الشهر الكريم وما يرتبط بها من حاجة إلى توفير التزامات العام الدراسي الجديد, من ملابس ومستلزمات مدرسية, وربما أقساط الرسوم الدراسية!..
هذه المناسبات الثلاث تأتي في وقت متقارب جدا يزيد من أعباء الأسر الفقيرة وذات الدخول الثابتة المحدودة إلى حد لا يعلمه إلا الله, ثم أربابها, بخاصة وهي تأتي في ظروف اقتصادية تراجعت فيها الدخول وارتفعت فيها الأسعار, ولا سيما أسعار المواد الغذائية التي تنقل لنا التقارير والأخبار أنها تشهد تراجعا ملحوظا في مصادرها بعامة, وفي الدول المجاورة على وجه الخصوص, بيد أنها على العكس من ذلك لدينا, حيث تشهد ارتفاعا غير مبرر في بعض المناسبات, بخاصة في مناسبة مثل حلول شهر رمضان المبارك!..
في مقال الأسبوع الماضي تناولت هذا الموضوع, وتساءلت: ما الذي يجعل أصحاب الأسواق يحرصون على إخراج بضائعهم الراكدة وتكديسها في طريق المتسوقين, مع ما قد يحمله ذلك من تغرير وتمويه على المتسوقين, نتيجة خلطها ببضائع غير سليمة من الناحية الصحية!.., واليوم أطرح القضية المتعلقة بأسباب زيادة الاستهلاك والسر في ارتباطها بشهر رمضان في المجتمع المحلي, رغم أن المتعارف عليه والملموس على أرض الواقع, أن الاستهلاك ينبغي أن يقل في هذه المناسبة تبعا لاختصار الوجبات الغذائية من ثلاث في الأيام العادية إلى اثنتين في الشهر الكريم؟!., مع اختفاء بعض أصناف الطعام والتركيز فيه على الأصناف الخفيفة, تبعا لحاجة الصائم ومتطلبات الصحة العامة, اتساقا مع ما أوصانا به نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم, في حديثه الذي أرسى من خلاله قواعد السلوك الغذائي السليم, قبل أكثر من 14 قرنا, حين قال: ''ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن, بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه, فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه'' رواه الترمذي, بيد أن من المستغرب أن حركة الشراء وتكديس المواد الغذائية في البيوت تزداد بشكل كبير قبل حلول الشهر وأثناءه, مع أن الأسواق تظل مفتوحة طيلة الوقت, والبضائع متوافرة فيها, فضلا عن أنها, أي الأسواق, منتشرة ومتقاربة بشكل لا يوجد له مثيل في الدول من حولنا!.., وبإمكان الناس الحصول على ما يريدون وقتما يشاؤون!..
ولا شك أن للعامل النفسي دورا بارزا في زيادة الشراء في مثل هذه المناسبات, إذ يتصور الإنسان, وهو يدخل السوق جائعا أو صائما, أنه سيلتهم كل شيء, لكي يفاجأ حينما يجلس للطعام, أن ذلك التصور قد تلاشى مع أول لقيمات يتناولها, ليجد أن ما تركه من طعام يفوق ضعف ما أكله!.., والغريب أن مثل هذا المشهد يتكرر يوميا ولا نتعلم منه ما ينفعنا في صحتنا, ويوفر علينا في نفقتنا, ومن ثم كان أحد المبادئ المترسخة في العالم المتقدم هو ألا يدخل الإنسان إلى السوق للتبضع وهو جائع, لأن عامل الجوع يذكي فيه الشعور بالشراهة, وهي في هذه الحالة شراهة العيون, وليست شراهة البطون!.., ولهذا السبب نلاحظ, نحن المواطنين, الفرق بيننا وبين الآخرين فيما تحمله عربات التبضع, عندما نلتقيهم في الأسواق, غير أننا لا نحاول التعلم منهم, والاستفادة من أسلوبهم في الاستهلاك, بدلا من أن نلاحقهم بنظراتنا المشوبة بالاستغراب والتساؤل عما إذا كان أسلوبهم هذا عائدا إلى عوامل مثل الشح والتقشف, أو الرغبة في التوفير!..
أخرج من محاولتي هذه بالدعوة إلى كل من يعنيهم الأمر, من مسؤولين عن الصحة العامة, الذين يواجهون تبعات ما يترتب على الأنماط الغذائية الخاطئة من مشكلات صحية تستنزف الجزء الأكبر مما يخصص للإنفاق على المرافق الصحية, حيث يعاني معظم أفراد المجتمع من المواطنين انتشار الأمراض المنسوبة إلى التغذية الخاطئة, والمسؤولين عن مكافحة الغش والتلاعب والتدليس في قوت الناس, كالهيئة العامة للغذاء والدواء ووكالة وزارة التجارة والصناعة لحماية المستهلك, والجمعية الوطنية لحماية المستهلك, وكل من يعنيهم إرشاد الناس وتوجيههم إلى اتباع الطرق الصحية للغذاء وترشيد الاستهلاك, أدعوهم جميعا إلى الإسهام في التوعية والاقتصاد في الاستهلاك ومكافحة ما يعتري تسويق المواد الغذائية وتصنيعها من غش واحتكار ومغالاة في الأسعار. والله من وراء القصد.