كوارث عالمنا ليست سوى نتاج للفهم الخاطئ لفلسفة الندرة! (2 من 2)
عرضت في المقال الأول للرؤية الوضعية في مسألة الندرة، وكيف أنها رؤية مادية قاصرة، لا يمكن أن تفضي إلا إلى الحروب والدمار والخراب، ومن هذا المنطلق، وكباحث مسلم فتشت في كتاب الله وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم، أملاً في الخروج بنظرية علمية وليس مجرد سرد آيات أو أحاديث تفيد الوفرة وليس الندرة. فقد ذكرت بأنني لست أول المتحدثين عن أن دلائل الوفرة من كتاب الله وسنة نبيه كثيرة، ولكننا لم نحاول بعد صياغة تلك الدلائل في نظرية علمية منطقية ترتقي إلى العقل، بحيث يمكننا تقديمها لخلق الله بأسلوب علمي في زمن لا يعترف إلا بلغة العقل والعلم.
أشرت في المقال السابق إلى سورتين عظيمتين من كتاب الله، ففي الأولى (سورة الحجر)، في الآيات من 19 وحتى 21، قال تعالى: ''والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم''، يتضح من هذه الدرر الربانية والسلاسل الذهبية، وبما لا يدع مجالاً للشك أن نعم الله كثيرة، وأن الله وضع كل شيء في هذا الكون بميزان عادل، ليس هذا فقط، بل تكفل المولى ليس برزقنا فقط كبشر ولكن من لسنا لهم برازقين، فما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها. والآيات في هذا الشأن كثيرة وعظيمة ودامغة. أضاف المولى عز وجل ''وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم''، أي أن نعم الله وفيرة ومخزنة لعباده ولكن الله ينزلها على عباده وفق مشيئته سبحانه على من يستحق من عباده.
وهنا بدأت أسأل نفسي، ما هي الفلسفة؟ ووجدت الإجابة في قوله تعالى في سورة الذاريات (الآيات 56 وحتى 58) ''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين''. لقد اعتدنا على قراءة وفهم هذه الآيات، من خلال مختلف كتب التفسير، بأن المقصود هو العبادة بصيغتها العامة. ولكن استوقفني العطف الذي تلى ''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون''، بقوله تعالى ''ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين''، فما علاقة الرزق بالعبادة إن لم يكن المقصود بالعبادة هنا السعي والعمل لكسب الرزق وإشباع الحاجات؟''. إذاً المولى هنا يقصد أمراً آخر من هذا العطف، وعلينا أن نتنبه إليه.
نعم، خلقنا الله لعبادته، ولكن كيف تكون العبادة؟ هل من خلال الاعتكاف ليل نهار في المساجد؟ هذا غير صحيح، فقد ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه رأى شاباً عاكفاً في المسجد ليل نهار في غير رمضان، فسأل عمَن يعوله، فقيل إن أخاه يتولى أمره، رد عمر بالقول ''إن أخاه عند الله أعبد منه''!! فكيف يكون أخوه عند الله أعبد منه؟! ببساطة شديدة لأن أخاه دخل في اختبار حقيقي في عبادته، من خلال تعامله مع الناس، وكان أمامه أن يلجأ إلى الغش والكذب ولكنه فضل الطريق الآخر، أما ذلك المتعبد ليل نهار فلم يدخل في اختبار حقيقي ولما يعايش ويجابه مفاتن الدنيا، ولهذا كان أخوه عند الله أعبد منه طالما فضل حلال الله عن حرامه.
لنا أن نتخيل أحبائي أن الله خلق الإنسان وجعل كل شيء تحت قدميه، يحصل عليه بمجرد التفكير فيه، هل سيكون في حاجة للآخرين؟ هل سيكون هناك مجال للتعارف بين البشر؟ ومن ثم هل سيكون قد دخل في اختبار يحدد موقعه إما في الجنة أو في النار؟ بل هل سيكون للحياة معنى في غياب احتياج الناس لبعضهم؟ بالطبع لا. ومن ثم فإن الندرة هي ندرة ظاهرية، اقتضتها حكمة وفلسفة الوجود على الأرض.
فما يمكن أن نستشفه من العرض أعلاه، هو المسألة أبعد ما تكون عن تلك الندرة الظاهرية القاصرة، نظراً لأن المولى عز وجل ذكر في كتابه أيضاً ''وهو الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهره وباطنه'' وكلمة ''أسبغ'' تنطوي على دلالات عظيمة عند أهل اللغة. والنعم منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن. فأما الباطن من النعم فهو بحاجة إلى من يظهره. إذاً نحن نعيش اختباراً في هذه الدنيا، وخلال مرحلة الإعداد لهذا الاختبار (مسيرة حياتنا)، إما أن نكون قد أعددنا الإعداد الجيد، وإما العكس، وفي النهاية إما جنة أو نار'' هذه هي الحكاية ببساطة شديدة، فمن خلال السعي الجاد نفجر مكنونات الأرض ونخرج النعم الباطنة، ونتغلب على هذه الندرة الظاهرية، إذ ليس هناك ندرة في حقيقة الأمر، ولكنها فلسفة وجود.
وهنا أتذكر حادثة طريفة عايشتها بنفسي خلال مرحلة الإعداد للدكتوراة في بريطانيا منذ أكثر من عشر سنوات. فكنت أصر دائماً على حضور اللقاءات التي تنظمها جماعات التبشير للطلاب الوافدين، خاصة من البلاد التي لا تؤمن بدين سماوي لجذبهم إلى المسيحية، وفي أحد اللقاءات، وبعد حديث القس عن أن عيسى (عليه السلام) ابن الله، وأن الله ضحى بابنه من أجلنا لغسل ذنوبنا وخطايانا... إلخ. هنا استأذنت من القس، وقلت له وللحضور، أنا هنا أدرس الدكتوراة، وإذا لم أجد وأتعب فلن أحصل على الدرجة، فكيف لي بمجرد أن أؤمن بأن عيسى ابن الله أن أدخل الجنة، حتى ولو لم أجتهد في العبادة، بل حتى ولو اقترفت ذنوباً لا حصر لها!!، فما أسهل أن أقول إن عيسى بن الله، ولكن هل في هذا منطق أو عقل؟ وكان تعليقي صادماً للقس وللحضور، وعندها ذكرت لهم بأن ديني الإسلام، يعلمني بأن هناك جنة ونارا، فالجنة هي جائزة لمن جد وأعد، والنار مثوىً لمن أفسد وعصى. أعتقد أن هذا فهم (الفهم الإسلامي العظيم) يرتقي إلى العقل والمنطق، ولهذا وبفضل من الله، كانت ردة الفعل طيبة من جانب الحضور. ولا تنفصل هذه القصة عن موضوعنا، فالموارد بحسب قول الله تعالى موجودة بل غزيرة (أسبغ)، ولكن المسألة تتطلب فهما أكبر وربط الأمر بفلسفة الوجود على الأرض.
إذاً المسألة هي أننا كبشر علينا أن نفهم بأننا نعيش اختباراً في هذه الدنيا، وخلال حياتنا (فترة الاختبار) نجتهد في السعي إلى تفجير مكنونات الأرض واكتشاف الجديد. فالنفط موجود في باطن الأرض منذ آلاف السنين، ولم يكتشفه الإنسان إلا عندما سعى منذ أقل من قرنين. كل يوم من خلال السعي والعمل الجاد والعلم نفجر مكنونات كوكبنا، وتغرقنا نعم الله التي لا تعد ولا تحصى. وقد حفزنا ديننا على العلم والعمل والأمثلة من كتاب الله وسنة نبيه كثيرة، إذ ''يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات''، ''وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون''، كما ذكر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ''إذا مات أحدكم وفي يده فسيلة، إن استطاع أن يغرسها فليغرسها''.
لقد عرضت لرؤيتي كباحث مسلم حول فلسفة الندرة في بحث مطول، وما عرضت له في هذين المقالين عبارة عن ملخص، فأسأل الله تعالى أن أكون قد أوصلت من خلاله فكرتي في ربط الندرة بفلسفة الوجود على الأرض، وهو اجتهاد مني، وخطوة لا أدعي كمالها. فأجزم بأننا من خلال هذا الفهم يمكن أن نطفئ نيران الخوف من الندرة ومن ثم الحروب وإهدار الموارد. فبدلاً من الفهم الخاطئ لقضية الندرة، نستطيع من خلال فهمنا المستقى من الكتاب والسنة أن ذلك، في نفوسنا ونفوس غيرنا، أدوات التغلب على هذه الندرة الظاهرية بالعلم والعمل والسعي الجاد. فهل نستطيع كمسلمين أن نوصل هذه الفلسفة العظيمة والراقية إلى باقي خلق الله؟ بل هل نستطيع كمسلمين أن نطبق هذه الفلسفة على أنفسنا، لأننا أحوج أهل الأرض إلى هذا الفهم بعد أن أهملنا العلم وأهله وبين أيدينا هذه الدرر الثمينة؟ نسأل الله التوفيق.