تقارير و تحليلات

العملات الإفريقية أمام هجمة الدولار .. خيارات صعبة بين التضخم والانتعاش الهش

العملات الإفريقية أمام هجمة الدولار .. خيارات صعبة بين التضخم والانتعاش الهش

العملات الإفريقية أمام هجمة الدولار .. خيارات صعبة بين التضخم والانتعاش الهش

يصاب أغلب العملات الدولية بالمعاناة كلما ازدادت قوة الدولار الأمريكي، لكن حجم الخسائر التي يمنى بها اقتصاد ما نتيجة ارتفاع قيمة الدولار يختلف من دولة إلى أخرى، ويتفاوت بين العملات بطبيعة الحال.
انخفض الاسترليني البريطاني إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والين الياباني وصل في بعض الأحيان إلى أضعف مستوياته أمام الدولار، أما اليورو فقد تراجع في آب (أغسطس) الماضي إلى ما دون حد التكافؤ وذلك للمرة الأولى منذ عام 2002، وانخفاض اليورو تحديدا يؤثر مباشرة في أسعار صرف عملات 14 دولة إفريقية ترتبط عملتها الوطنية بالعملة الأوروبية الموحدة بسعر ثابت.
لكن بريطانيا واليابان والدول الأوروبية تمتلك جميعا اقتصادات قوية تمكنها من الصمود لفترة طويلة أمام هجمة الدولار، أما الدول الإفريقية فإن الأمر يختلف فيها تماما، فتقلب أسعار الصرف وانخفاض قيمة العملة المحلية يعني أزمة واسعة النطاق للاقتصاد الكلي وتراجعا في مستوى معيشة السكان، وقد أدى تراجع معظم العملات الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى مقابل الدولار، إلى زيادة الضغوط التضخمية في جميع أنحاء القارة نتيجة ارتفاع أسعار الواردات.
هذا إلى جانب تباطؤ النمو الاقتصادي، وقد ترك ذلك صانعي القرار الاقتصادي أمام خيارات صعبة، إذ بات عليهم الموازنة بين إبقاء التضخم تحت السيطرة من جانب وتعزيز الانتعاش الذي لا يزال هشا من جانب آخر.
يحمل عديد من الخبراء الأفارقة ارتفاع قيمة الدولار مسؤولية تراجع قيمة العملات الوطنية الإفريقية، فالموقف المتشدد الذي اتخذه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بزيادة أسعار الفائدة بشكل متواصل وأكثر قوة من البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى الأخرى، مسؤول من وجهة نظرهم عن التدهور الراهن في قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء.
فالدولار ينظر اليه عادة بوصفه ملاذا آمنا في أوقات التقلب الاقتصادي، وقرارات الفيدرالي الأمريكي بشأن الفائدة عززت قوة الدولار بشكل كبير، تلك القوة المتزايدة للعملة الأمريكية أدت إلى تتراجع قيمة العملات الإفريقية لدول جنوب الصحراء الكبرى بنحو 8 في المائة منذ كانون الثاني (يناير) عام 2022، وبطبيعة الحال فإن تلك النسبة تختلف من بلد إلى آخر، وربما كان الأسوأ هو ما حدث لقيمة السيدي الغاني والليون السيراليوني اللذين تراجعا بأكثر من 45 في المائة أمام الدولار.
وهنا قال لـ"الاقتصادية" مايكل فليتر الخبير الاستثماري إن "الانخفاض في قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء لم ينجم عن أسباب داخلية بالأساس وإنما لعبت العوامل الخارجية الدور الأكبر وراء التراجع، فقد انخفضت الرغبة في المخاطرة في الأسواق العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وبريطانيا، دفع المستثمرين بعيدا عن الاستثمار في إفريقيا جنوب الصحراء، مفضلين سندات الخزانة الأمريكية بوصفها أكثر أمانا والأعلى في الدفع".
وبالفعل فإن أرباح العملات الأجنبية في عديد من دول إفريقيا قد تضررت نتيجة انخفاض الطلب على صادرات المنطقة بسبب التباطؤ الاقتصادي في الاقتصادات الرئيسة، كما أن ارتفاع أسعار النفط والغذاء نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية أدى إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد خاصة العام الماضي، وقد أدى العجز الضخم في ميزانية الدول الإفريقية إلى تفاقم آثار الصدمات الخارجية من خلال زيادة الطلب على العملات الأجنبية، وخلال عام 2022 كان لدى نحو نصف دول إفريقيا جنوب الصحراء عجزا في الميزانيات العامة تجاوز 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما فرض ضغوطا على أسعار الصرف.
مع هذا فإن بعض الخبراء يرون أن تحميل العوامل الخارجية الجزء الأكبر من مسؤولية ما آلت إليه أوضاع العملات الإفريقية يتضمن من وجهة نظرهم بعض المبالغة، إذ يرفع العبء عن كاهل صانعي السياسة الاقتصادية وعدم صواب القرارات الاقتصادية التي اتخذوها لأعوام.
بدورها، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة بيستي جون الخبيرة في الشؤون الإفريقية وأستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة لندن، أن "الدول الإفريقية تفتقر إلى قاعدة تصدير قوية خاصة للسلع الأساسية، لذلك اقتصاداتها دائما في وضع مكشوف، العام الماضي على سبيل المثال انخفض الشلن الكيني بنسبة 6 في المائة، وسط انتعاش اقتصادي ضعيف في فترة ما بعد كوفيد والجفاف المستمر، وقطاع البستنة الكيني الذي تعتمد عليه البلاد لتوليد النقد الأجنبي في حالة من الركود".
وتستدرك قائلة " تقلب سعر الصرف في دولة مثل كينيا أدى إلى ضربة اقتصادية مزدوجة، فقد ارتفعت تكلفة الوقود محليا بسبب ارتفاع الأسعار عالميا وانخفاض قيمة الشلن الكيني، ودولة مثل نيجيريا كان من المتوقع أن يكون العام الماضي عام ازدهار بسبب ارتفاع أسعار النفط، وأن تتحسن قيمة العملة المحلية، لكن ما حدث كان عكس ذلك، إذ تراجع إنتاج النفط نتيجة أعوام من ضعف الاستثمار وتفشي السرقات والتكلفة الهائلة لدعم الواردات من المنتجات البترولية المكررة، ما يكشف أن العوامل الداخلية لعبت دورا أساسا في تدهور قيمة عملات الدول الإفريقية جنوب الصحراء".
مع هذا يشير البعض إلى أن الصورة لا تبدو تشاؤمية للغاية بالنسبة إلى العملات الإفريقية، فهناك نماذج جيدة أبرزها الكواتشا الزامبي التي أحرزت العام الماضي ارتفاعا 6 في المائة في مواجهة الدولار الأمريكي، وربما يرجع ذلك إلى الشفافية السياسية التي مثلت عاملا حيويا لإقناع صندوق النقد الدولي بصرف قرض بقيمة 1.3 مليار دولار.
لكن الأرقام المخيبة لإنتاج النحاس الذي يعد المصدر الرئيس للعملات الأجنبية للبلاد، ربما يترك بصمات سيئة على العملة الزامبية.
وهنا أوضح لـ"الاقتصادية" آر. إل. ديدلي الباحث في بنك إنجلترا، "في الواقع تواجه جميع الدول الإفريقية بيئة خارجية صعبة، فضعف النمو في الصين، والنمو الأضعف في أسواق الدول المتقدمة يعني أن الطلب على الصادرات الإفريقية من المرجح أن يظل ضعيفا في المستقبل المنظور، وبالنسبة إلى صانعي السياسة الاقتصادية الذين يعملون على إدارةأخطار العملة لا توجد طريقة سهلة للخروج من دائرة الأزمة".
في هذا السياق، حاول عديد من البنوك المركزية الإفريقية دعم عملتها الوطنية من خلال توفير النقد الأجنبي للمستوردين عبر احتياطيات البنك المركزي، لكن مع انخفاض الاحتياطيات الوقائية في عديد من الدول، فإنه لا يوجد مجال كبير لمواصلة التدخل في أسواق الصرف الأجنبية، كما طبق بعض الدول تدابير إدارية مثل تقنين سحب العملات الأجنبية أو حظر المعاملات بالعملات الأجنبية، إلا أن تلك التدابير لم تحقق نتائج تذكر كما ووجهت برفض شديد من قبل المؤسسات المالية الدولية بوصفها إجراءات مشوهة للغاية وتوجد فرصا للفساد.
بصرف النظر عن الجدل الدائر حول دور العوامل الخارجية والداخلية في تراجع قيمة عملات معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء، فإنه في ظل استمرار الصدمات الخارجية، وصعوبة إصلاح العوامل الداخلية في الأمد القصير، فإن الدول التي لا تكون فيها أسعار الصرف مرتبطة بشكل ثابت بعملة دولية ما مثل الدولار أو اليورو فلن يكون لديها من خيار سوى السماح بتعديل سعر الصرف وهو تعبير يستخدم عادة لخفض قيمة العملة الوطنية رسميا مقابل الدولار، وتشديد السياسية النقدية لمكافحة التضخم.
أما الدول التي ترتبط عملتها بعملات دولية سواء كانت الدولار أو اليورو فستكون في حاجة إلى تعديل سياستها النقدية بما يتماشى مع العملات الدولية التي ترتبط بها، وفي الأغلب فإن ضبط أوضاع المالية العامة لكبح جماح الاختلالات الخارجية والحد من الزيادة المفرطة للديون قد يساعد على الحد من انخفاض قيمة العملة المحلية.
لكن هذا لا يمكن أن يحقق النجاح المرجو أو يستمر في الحفاظ على قيمة العملات الوطنية الإفريقية دون اتخاذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية والجذرية والتصدي بقوة للفساد المستشري في عديد من دول القارة السمراء، لتعزيز آفاق النمو بوصفه الوسيلة الأولى لضمان تحسين قيمة العملة المحلية.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات